"قط في الجدار": السياسة والاجتماع أقوى من السينما

"قط في الجدار": السياسة والاجتماع أقوى من السينما

20 مايو 2020
مينا ميليفا وفيسيلا كازاكوفا (بيير ماركو تاكّا/Getty)
+ الخط -
كأفلام عدّة سابقة، يتناول "قطّ في الجدار"، للبلغاريتين فيسيلا كازاكوفا (1977) ومينا ميليفا (1975)، مشاكل الهجرة والمهاجرين. لكنّ المشاكل فيه غير قاصرة على عرق أو جنس أو لون، وهي تزداد تعقيداً وتركيباً، إنْ يكن للمُهاجر دين أو بشرة مُغايرتان، أو أنّه قادمٌ من بلد أوروبي فقير. هناك أيضاً الانتماء الطبقي، ومستوى الدخل. للموقع الاجتماعي والمستوى التعليمي ضريبة أيضاً.
في الدراما الواقعية هذه، تحضر صعوبات العمل، والعيش المشترك، وكراهية الأجانب، والعداء تجاه الطبقات الدنيا، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. أحداثها تدور في منطقة سكنية في حي "بيكهام" شبه العشوائي (جنوب شرق لندن). مؤخّراً، باتت تلك القضايا مُلحّة ومزعجة للغاية في المجتمع البريطاني. لكنّ المثير فيها، وربما الأكثر إيلاماً، أنّ جانباً كبيراً من الصعوبات والصراعات ينشأ بين المهاجرين القدامى والجدد، الذين يتبادلون الإهانات والشتائم، ويُطالبون الآخرين بالعودة إلى الأمكنة القادمين منها.

شخصيات الفيلم أفراد ينتمون إلى الطبقة المتوسطة في المجتمع البريطاني، الذي اتّسم منذ عقود بالانفتاح على الأجانب وتعدّد الثقافات. يرصد ردّ فعل المجتمع تجاه المهاجرين، بصرف النظر عن جنسياتهم: هل يسرق المهاجرون الوظائف من البريطانيين، أو أنّهم يعيشون على إعانات البطالة، ولا يرغبون في العمل، ويعزفون عن الاندماج في المجتمع، ويكنّون العداء له ولأفراده؟ هل شخصياته وسلوكها سببُ تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي، لتخلّص مزعوم منهم، ومن العمالة المستحوذة على سوق العمل في بريطانيا؟

لتلبية متطلبات الحياة اليومية، تعمل إيرينا (إيرينا أباناسوفا)، المهندسة المعمارية البلغارية ذات الدخل غير المنتظم، في ملهى ليليّ. لديها فواتير كثيرة يجب تسديدها، وعليها تأمين عيش كريم لابنها جوجو (أورلين أسينوف)، ذي الأعوام الخمسة، وشقيقها فلاديمير (أنجيل جينوف)، أستاذ التاريخ العاطل عن العمل، لعدم الحاجة إلى خبراته، وعدم الاكتراث بشهاداته. خلافاً لمهاجرين وعاطلين عن العمل، ترفض إيرينا وفلاديمير الحصول على إعانات بطالة من الدولة. تقول مراراً إنّها لم تترك الفساد والقتل والفقر ومجتمع ما بعد الشيوعية لتعيش على حساب المجتمع البريطاني. هكذا يتجلّى تناول مشاكل تلك الشريحة المثقفة من المهاجرين الأوروبيين، والتأكيد على جدّيتها في سعيها إلى عملٍ ومكانة وعيشٍ كريم ومستقبل في بلد ومجتمع آخرين. نقطة تُعدّ الأقوى في الفيلم.



تواجه إيرينا مشاكل عدّة، أبرزها عملية ترميم قرّر مجلس المدينة تنفيذها لمباني الحي السكني، وبينها المبنى الذي تُقيم فيه. ولأنّها تملك شقّتها، عليها دفع أكثر من 25 ألف جنيه إسترليني (30 ألف دولار أميركي)، كبقية المالكين. لكنّها تعتبر الأمر غير عادل، فهي لا ترغب في الترميم. تحاول الاستعانة بجيرانها من المالكين، وهم قلّة، مقابل المستأجرين غير المُطالبين بدفع أي شيء. لكن الاجتماع لا يُسفر عن جديد، سوى الرضوخ للقرار.

في استعارة واضحة لأوضاع المهاجرين وحياتهم، وللمجتمع البريطاني، في أزمة الخروج من الاتحاد الأوروبي، تواجه إيرينا وفلاديمير مشكلة أخرى، تتفاقم بعد عثورهما على قط شريد (غولدي)، فيتبنّيانه. يتّضح لاحقاً أنّ القط يخصّ أحد الجيران، الذي يتّهمهما بسرقته، فيُبلّغ الشرطة. يعلق القط في كوّة جدار، خلف المرجل الملاصق للسقف في مطبخ إيرينا وفلاديمير، فيصعب عليهما إخراجه. مشكلة القط تفجّر صعوبات جديدة أمامهما.
"قطّ في الجدار" أول روائي طويل مشترك لفيسيلا كازاكوفا ومينا ميليفا، بعد 3 أفلام وثائقية لهما، نالت تقديرات نقدية وجوائز. مأخوذٌ من وقائع حقيقية، تمّ فيه توظيف جيّد للكاميرا المحمولة يدوياً للمصوّر ديميتار كوستوف، ما أضفى عليه واقعية كبيرة اقتربت به مراراً من السينما الوثائقيّة. فمعظم مشاهده تدور في شقّة إيرينا، وعند الجيران، وعلى درج البناية وممرّاتها. الاستعانة بممثّلين كثيرين غير محترفين أضفت مزيداً من الواقعية والتلقائية والحميمية على الأحداث، وعلى مَشاهد معيّنة.

رغم رسالته السياسية ـ الاجتماعية، ومصداقية طرحه، وجمالية أداء ممثليه، هناك جماليات فنية ناقصة فيه، ليس بسبب ميزانيته، أو لكونه أول تجربة روائية للمخرجتين، ولا لاستعانته بممثلين عديدين غير محترفين. النقص أولاً في تركيبة السيناريو (كتابة المخرجتين): لا ترهّل فيه ولا ميلودرامية، ولا عيوب في رسم الشخصيات، ولا تصنّع في وضع جمل حوارية على ألسنتها، بل افتقار للانسجام والتناغم في التركيبة، تحديداً في قصّة إيرينا وحياتها ومشاكلها مع الجيران، ومع ترميم البناية، وقصّة القط العالق في الجدار. صحيح أنْ لا تنافر كبيراً بين القصّتين، لكنّ توظيف الثانية كاستعارة لأوضاع المهاجرين، أو لبريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، غير موفّق كثيراً. هناك حاجة ماسّة إلى مزيد من ضبط الموضوع وإيقاعه على نحو مشوّق، وتعميقه، ثم إحكام الحبكة أكثر.

المساهمون