جسد نحيل يتحوّل إلى آلة

جسد نحيل يتحوّل إلى آلة

28 سبتمبر 2019
من أعمال مايلز ديفيس التشكيلية (موقع الفنان الرسمي)
+ الخط -
تمشّت معلمة تاريخ الموسيقى بين تلاميذها، قبل أن تعلن خلاصة توصلت إليها بفخر: "السود يغنون البلوز لأنهم فقراء ولا يعرفون شيئاً سوى جمع القطن". كانت تعتبر نفسها تقدمية؛ فذِكْر البلوز في صفوف مدرسة جوليارد في نيويورك لم يكن مألوفاً. لكن ذلك لم يُقنع أحد طلابها، الذي وقف وقال لها متحدياً: "أنا من شرق سان لويس، والدي ثري، إنه طبيب أسنان، وأنا ألعب البلوز. والدي لم يقطف القطن في حياته، وأنا لم أستيقظ في الصباح حزيناً فعزفت البلوز، الأمر أبعد من ذلك بكثير".

هذا الطالب هو مايلز ديفيس، الذي قال عبارته هذه ثم تجشأ زيادة في الاحتقار. يقول وهو ينقل الحكاية إن لون المعلمة، التي يلقبها بأقذع الألقاب، امتقع، ولم تنبس بكلمة بعد ذلك. لم يكترث هذا المراهق بالمكوث كثيراً في المدرسة العريقة البيضاء، بل كان كل همه أن يتركها ليذهب إلى حيث الموسيقى الحقيقية التي تصدح في شارع "52"، بين الحانات والناس والعازفين.

هناك التقى بملوك الـBepop؛ ديزي غيلسبي، وتورنيدو الجاز، شارلي باركر، الأفضل في وقته، وسرعان ما أصبح ديفيس جزءاً من فرقته. لم يدم الود مع موسيقى الـBepop طويلاً، ثمة شيء في قلب ديفيس يتوق إلى التحرر من اعتبارات هذا النوع وتعقيداته وتقلبات الإيقاع السريعة والارتجالات القوية، ومن هنا كانت "ولادة الكول" عام 1957، ألبومه الذي قلب الطاولة على Bepop.

في هذا السياق، تجدر استعادة قول الموسيقي الكندي غيل إيفانز؛ إذ يرى أنه إذا كان هناك من مسطرة للجاز ونقلاته، فإنها تبدأ من منعطف لويس أرمسترونغ، الذي سيظل مهيمناً حتى ظهور ديفيس؛ الأخير يُعد بحق المنعطف الثاني لموسيقى الجاز، أي أن كل من هو قبل ديفيس، مقتبس عن أرمسترونغ، لكن الأمر اختلف بعد أن ابتكر مايلز صوتاً جديداً للآلة، وهذا أمر لا يحدث كثيراً. وفنانون مثل ديفس هم أقرب إلى نوع نادر من الطيور.

شكلت صداقة الثنائي ديفس وإيفانز قصة ألبوم "سكتشات إسبانيا" الذي نال عنه جائزة غرامي. ينتمي هذا الألبوم إلى ما يسمى "التيار الثالث" في الجاز، وهو نمط يجمع الجاز بالموسيقى الكلاسيكية الأوروبية. هذا الألبوم الحسي إلى حد كبير يعبر أيضاً عن مزاج الفنان المهووس بالجسد والجنس، من دون أن يعني ذلك أنه كان مهتماً بالمرأة في ما هو أبعد من حدود السرير.

على العكس، فقد وضع زواجه من راقصة الباليه الشهيرة فرانسيس تايلور حداً لمهنتها بعد أن طلب منها التخلي تماماً عن الرقص والبقاء في البيت، تالياً سيدمن الهيرويين، ويدفع كل ما يملك على عادته، ويسرق أصدقاءه، بل ويعمل قواداً لكي يصرف على إدمانه. فترة لم يضع حداً لها سوى والده، طبيب الأسنان الذي أخذ ابنه إلى بيت سان لويس، حتى عاد إلى رشده وآلته الموسيقية قبل أن يرجع إلى نيويورك.

في عام 1959، صدرت ثلاثة ألبومات، هي اليوم محطات فارقة في تاريخ الجاز، وهي أيضاً من الأساسيات في أي مكتبة موسيقية؛ الأول "كايند أوف بلو" لـ مايلز ديفيس، وصدر في أغسطس/آب. و"مينغوس آه آم" لتشارلز مينغوس في أكتوبر/تشرين الأول، والثالث ظهر في ديسمبر/كانون الأول وهو "تايم آوت" لفرقة ديف بروبيك الرباعية.

سجلت الألبومات الثلاثة في "استوديو كولومبيا شارع 30" الذي كان يطلق عليه "الكنيسة"، وظل المعمل الأساسي الذي تخرج منه أيقونات موسيقية حتى مطلع الثمانينيات؛ ففيه سجلت مثلاً "قصة الجانب الغربي" لـ برنشتاين، و"الجدار" لـ بينك فلويد. في العام نفسه، صدر ألبوم لا يقل أهمية وهو "شكل الجاز الآتي" لـ أورنيت كولمان وهو من تسجيلات "أتلانتيك".

كانت سنة 1959 بالذات أساسية في تاريخ موسيقى الجاز بسبب هذه الألبومات الخارجة عن المكرّس. حتى أن هناك فيلماً وثائقياً بعنوان "السنة التي غيرت الجاز"، يتحدث بالتفصيل عن كل ألبوم من هذه الأربعة وظروف تسجيله واستقباله، وكان أحد أبرز الأسباب أن المستمع الأبيض لم يعد بمقدوره أن يتجاهل روائع الموسيقى السوداء، فبدأت جماهير جديدة تنضم إلى مستمعي الموسيقى الأفروأميركية.

يعتبر كثيرون أن "كايند أوف بلو" (الألبوم الأكثر مبيعاً في تاريخ الجاز) هو الأهم من بين هذه الأربعة. قد يختلف مزاج أحدنا مع هذه المقولة، لكنها كانت تشير إلى مزاج الموسيقى التي ضاق مؤلفها ذرعاً بالجاز الدارج ووجه له هذه الضربة التي حرفت مسار مشهد ظل متسيداً منذ الأربعينيات.

نحن الآن في الستينيات، وأميركا تغلي؛ فوضى سياسية من حرب فيتنام إلى اشتعال حركات الحقوق المدنية والمجموعات النسوية، إلى جانب مجموعات فوضوية وأخرى متطرفة، ثم اغتيال كينيدي، وبعده مارتن لوثر كينغ؛ وكان لهذا السياق من الانقسام والضعف بين الناس أنفسهم والناس والمنظومة الاجتماعية والسياسية، ما أدى إلى انعكاسات قوية على الموسيقى، وإن كان هناك من كلمة يندرج تحتها كل أشكال الموسيقى في ذلك الوقت، فهي الحرية التي باتت أقرب إلى أيديولوجيا تهيمن على التأليف الموسيقي، فظهر التجريبيون الذين كسروا هياكل الموسيقى، ورغم ذلك احتفظ ديفيس بمكانة خاصة حتى بين هؤلاء، ذلك لأنه لم يكن بعيداً عنهم.

في عام 1969، حين بدأ تسجيل "بيتشز برو" كان ديفيس ثائراً ليس فقط على موسيقاه الشخصية، وتلك التي كانت سائدة، بل على حلم أي فنان، وعلى استوديو كولومبيا، فلم يعد راغباً في أن يكون صاحب مبيعات قياسية وأن يوضع اسمه على قائمتها ويزيد عدد المشترين البيض لألبوماته. قرّر أن عليه أن يغير المجرى المألوف كي يستمر في حب الموسيقى التي يلعبها.

سجل ديفيس الأسطوانة التي كانت أول ألبوم في تاريخ الموسيقى يحمل كلمة "بيتشز"، وتزامنت التسجيلات مع رحيل جيمي هندريكس (كانت هناك نية تعاون كبير بينهما)، فألف مقطوعة تحية إلى الروكرجي الراحل بعنوان "ذا فوودو داون" The Voodoo Down.

وصف النقاد الألبوم بأنه مجدد من حيث إنه يخلو من عزف سولو، لكن الأمر يبدو كما لو أن كل آلة عزفت مقطوعة سولو منفصلة ثم جرى تجميع كل هذا، وهنا ظهرت عبقرية العمل، الذي حظي بعدد لا بأس به من الدراسات الموسيقية.

اختفى ديفس عام 1975، صمت تماماً ووصف الأمر بأنه "لم يعد يسمع الموسيقى"؛ أي أنه لم يعد يتكلم، أو أنه فقد صوته؛ فالسماع في حالته هو النطق. استمر الحال هكذا خمسة أعوام، ولم يصدق أحد أنه قد يعود، حتى وإن عاد، كان الجميع يظن أنه سيكرر نفسه. لكن الغائب رجع عام 1981 بموسيقى لا تشبه ما نعرفه عنه قبل ذلك التاريخ.

ورغم توقه الشديد إلى عزف الـ "بالادز" (مجموعة من المقطوعات التي ألفها بين 1961 و1963، ومنها "أقع في الحب بسهولة" و"انتظر حتى تراها") لكنه امتنع تماماً عن العودة إلى ماضيه، وغدا تجريبياً أكثر.

قبل أسابيع قليلة، ظهر الفيلم الوثائقي "ولادة الكول" للمخرج ستانلي نلسن، والذي يتتبع حياة فتى كان يستمع في الراديو إلى برنامج "هارلم ريذم"، ومرة بعد مرة قال لنفسه أريد أن أكون هكذا. على الأرجح أنه كان يقصد أنه سيصير عازف ترومبيت حين يكبر، لأن هذا ما حدث فعلاً. أنت تقريباً لا ترى إنساناً يعزف على المسرح، أنت ترى جسداً محنياً وناحلاً يتحول إلى آلة، حتى صوته مبحوح وخافت، كما لو أنه انسحب تاركاً حنجرة الفنان لتصبح مفتاحاً عبقرياً من مفاتيح الترومبيت.

المساهمون