ياني في جولة عربية... خفّة الموسيقى في الثابت والمتكرّر

ياني في جولة عربية... خفّة الموسيقى في الثابت والمتكرّر

04 اغسطس 2019
التسليع والاستهلاك يفسح المجال لأمثال ياني (Getty)
+ الخط -
معضلة الموسيقى خصوصاً، والفنون بشكل عام، أنها ميدان عصيّ على المعايرة. حتى أهلها، نُقّاداً ومزاولين، يجدون صعوبة في تقييم إنتاجاتها، ناهيك عن تقديم الإثباتات حول رأيٍ في معزوفة أو أغنية، لتبقى الآراء آراءً في أغلب الأحيان، واجتهاداتٍ في أفضلها. في المنطقة العربية، المعضلة أعصى وأعقد، لغياب التربية الموسيقية عن التعليم العام والمُختص. أو أقلّه، حداثة عهدها.
من هنا، تحظى بعض المستوردات من الغرب بشعبية بين الجمهور العربي، إما أنها لا تحظى بقدرها في بُلدان المنشأ، أو يكاد حتى لا يسمع بأسمائها وأغانيها وعناوين ألبوماتها بعد الآن. يانيس كريسوماليس، المعروف بـ ياني، نموذجاً. وهو في القريب ضيفٌ من جديد على أكثر من مهرجان فني كبير في المنطقة. فيما إن سئل اليوم أحدهم في الغرب عن ياني، لهزّ رأسه حيرةً واستفساراً.
على الرغم من احتلال الأخير مكانة بين صُنّاع الموسيقى التجارية – التطبيقية، والمقصود؛ ما يُوظّف في تأليف وإنتاج شارات الإعلانات ومُقدّمات البرامج والمسلسلات، فضلاً عن حصوله على شهرة محدودة منتصفَ التسعينيات، صدىً لحفلٍ مهرجاني مُبهرج، أحياه في مسرح الأكروبولس في أثينا، جرى تسجيله وتصويره وتداوله مادةّ مرئية وسمعية، مما عزز من رواجه.

إسراف استعراضي
الأبّهة و"العجقة" التي تُميّز عروض ياني، لجهة الحركة والإضاءة، إضافة إلى حيويّته التي تبدأ من شعره الأسود الطويل ولا تنتهي بذراعين ترقصان على ألواح الأورغ أمامه وعلى مرأى من الجمهور عبر شاشات بثٍّ عملاقة. نضيف إلى ذلك عدد العازفين والمُغنين الضيوف الذين يتوافدون على الخشبة ويتبادلون الأدوار. في إسراف وإبهار كهذا، عاملُ جذبٍ لمُنظّمي كبار المهرجانات ومموّليها.
العرض الضخم يُرضي كلّاً من المُنتج والمُستهلك. الممول، هو القيمة المُضافة على الصناعة الفنيّة، بمقابل سائر الصناعات الأخرى. سيَرضى غرورُ المموّل حين يرى نقوده وقد وُهبت لقاء عرضٍ باهر سيملأ الدنيا ويشغل الناس. المُستهلك، بدوره، سيسعد لكون نقوده قد ذهبت في سبيل حفلةٍ من العمر. القيمة المُجتزأة من تلك المعادلة، تبقى الموسيقى ذاتها.
لا يعيب موسيقى ياني تدنّي مستواها الفنّي والتقني، أفراداً ومُعدّات، كما لا تنقصها جودة الصوت والإنتاج. ما يَغيب عنها هو البُعد الفكري والعمق الروحي، ثم القدرة، ليس على استثارة المُتلقّي، وإنما ومن خلال تحريك الراكد والمكرور من المسموع والمعزوف، على إثارة مشاعر وأفكار الإنسان إزاء الحياة. وعليه، فإن غاية موسيقى ياني وأخواتها تكييف الوجود وتلطيفه، لا هزّه وتحّريضه.
الهواء بالأنغام
لماذا لا يُحدث ياني وضيوفه وصنوف آلاته وعديد فرقته وعتاده، في النفس خرقاً وجدانياً كالذي تُحدثه أمسيةٌ لمغني الراغا الهندية تي. إم كريشنا وحوله اثنان أو ثلاثة من العازفين؟ أو منير بشير وعوده وحيدين، أو المُغنّي الأذربيجاني عليم قسيم منفرداً في موّال قصير، أو عازف البيانو جريجوري سوكولوف مؤدياً مقطوعةً لشوبرت عمرها مئتا عام، وقد سبق وأداها مئاتٌ غيره لعشرات الأعوام.
أولاً، لدى هؤلاء الكبار ما يقولونه. من خلال ما يقدّمونه، إن كان أداءً، عزفاً أم غناءً، هم لا يرسمون الهواء بالأنغام فقط ويلونون الصمت بالألحان، إنما يوصلون للمستمعين رسالة؛ رسالة ليست منصوصة بالكلام، وإنما موحاة بالمجاز. لا تخاطب الآذان والأدمغة، وإنما العقول والأفئدة. رسالتهم عن الإنسان، للإنسان ومن أجل الإنسان. عما يجمع البشر من عاطفة مشتركة، عابرة للغة والثقافة.
ثانياً، يتحرّك ياني بموسيقاه ضمن مجال الثابت والمتكرّر. فيما يحّرك الكبار الثابت بالمتجدد والمتحوّل. إن أحصى المرء أنماط الائتلافات الهارمونية وتصاميم الجمل اللحنية لدى صُنّاع الموسيقى الخفيفة والتجارية كياني، لوجد أنها معدودة ومحدودة، لا تتبدّل ولا تتغيّر، وإنما تُعيد التشكّل والتموضع فينتُج عنها أعمال جديدة؛ إنها أشبه بقطع غيار ضمن وحدة تصنيع تُجمّع حسب الطلب.
الكبار يصدمون المُستمع شعورياً بالجديد وغير المتوقع. يحرضون لديه الفضول، ويوقظون في نفسه حسّ الترقّب. عالمهم الموسيقي قلِق وطرِب في آن معاً. مفتوح على لانهائية الخيارات الفنيّة والاحتمالات الأدائية. لا أحد بوسعه أن يستشرف كيف ستُطلق أم كلثوم آهةً عند كل مرّة تؤدي فيها أغنية "إنت عمري" مثلاً. ولا كيف سيُنهي عازف الجاز مايلز ديفيس لحن أوراق الخريف في كلَ مرّة يعزفه.

خلطة ثقافية
ليس لموسيقى ياني هويّة فنيّة. تعرّف مستمعيه إلى موسيقاه بفعل الضخ الإعلامي المتصل لها، عبر الراديو والتلفزيون ومن خلال البرامج والإعلانات المُختلفة على مدار الأسبوع، وفي مختلف أنحاء العالم. بيد أن موسيقاه من منظور إبداعي لا هوية لها. ليست الهوية ضمن هذا السياق ثقافية أو محلية، فموسيقى ياني بالأساس خلطة ثقافية، وإنما المقصود، الخصوصية والبصمة الشخصية.
أما الكبار، فلكلٍّ هوّيته الخاصة. ليس بالأسلوب التلحيني أو الغنائي والأدائي فقط، وإنما أيضاً بمحض الحضور والكاريزما؛ تلك الحَضرة والطاقة الروحية التي تشعّ وتُضيء فضاء المسرح، دونما منصّات إنارة دوّارة ولا مؤثرات ليزر ودخان. يكفي الفنان الكبير أن "يكون" ليشدّ إليه من حوله. سواءً غنّى أم لم يُغنّ. سواءً حرّك عصا قيادة الأوركسترا، أو مسح عن جبينه العرق بمنديل.
لا ضير في أن يكون لكل زمن موسيقى خفيفة مهمّتها الصغيرة الترفيه وتزيين الفضاء الصوتي في الأماكن الخاصة والعامة. كان هذا حال الفنون في كل العصور. وبقدر ما تنزع الحضارة نحو التسليع والاستهلاك، بقدر ما يتسّع المجال لمنتجات كـ ياني وأندريه ريو وقبلهم ريتشارد كليدرمان وبول موريا. الخلط بين الغث والسمين هو المُعضلة. الحل يكمن بالتربية الموسيقية، في البيت وفي المدرسة.

دلالات

المساهمون