أغاني العرب... حملة قديمة من ناشطي الدين والأعراف

أغاني العرب... حملة قديمة من ناشطي الدين والأعراف

24 يوليو 2019
رقابة متنوعة على مغنين كثر (فيسبوك)
+ الخط -
قرر المغني السوري جورج وسوف ذات حفلة أن يغني "الأطلال"، فاختار تغيير خاتمتها من "لا تقل شئنا فإن الحظ شاء" إلى "لا تقل شئنا فإن الحق شاء"، وأعادها ثانية وقال "فإن الله شاء".

ولو غنى جورج حرفياً، كما غنت أم كلثوم، لربما مرت بسلام، كما الأغنية الأصلية التي منذ عام 1965 لم تتعرض لمواجهات خشنة، وأصبحت الأولى لمغنيتها لجهة الانتشار الواسع، ولملحنها رياض السنباطي درة كنزه الموسيقي. ولربما وقع العكس. فهناك موسميون، وهناك مواسم رابحة لمثل هذه المواجهات.

واصلت أم كلثوم غناءها حتى يوم الناس هذا، بما فيها من سؤال لا يطلب الجواب "هل رأى الحب سكارى مثلنا" وبما فيها من حظ سيئ، شاء أن يقول قولته في حبيبين تفرقت بهما السبل، وباتا غريبين.

يقول ابن السكيت (القرن التاسع ميلادية) "الإنسان ملعبة البخت"، والبخت يعني الحظ والنصيب، وهي مفردة شائعة في الكلام بين كل الطبقات من العامية إلى الفصيحة، دون أن يخطر ببال المتحدث أنه يختبر ولو واحداً في المليون من إيمانه.

يمكن لأي حاج أو معتمر القول إن زيارته الديار المقدسة كانت سهلة، بفضل الله، ومريحة، فيرد عليه آخر "يا بختك" دون أن يُستفز الأول ويقرّعه، لأنه أتى شيئاً منكراً.


غير أن ما يقع من هجمات على أغنية، يحال إلى جهات دينية حرفية، أو عرفية اجتماعية أو سياسية. وغالباً من يضطلع بمهمة التصدي، أحد من يمثل "الأخلاق الحميدة"، والدين. إنه يتبرع بالحديث نيابة عما يراه مقدساً دينياً، واجتماعياً. وهذه الجهات تجد طريقاً للتحالف، وتقترض من بعضها تقنيات القياس بمسطرة حادة تخرج النص عن جاة الصواب، فيسهل الهجوم عليه.

وهذان الاثنان العرفي والديني يختلطان ببعضهما بعضاً لحشر النص تحت حافة المسطرة. والسياسي قد يكتفي بالمراقبة. قد يتدخل. قد يختار الاصطفاف، لكنه يريد دائماً أن تبقى السقوف المتاحة تحت رعايته. قد يكون دين الدين، ودين العرف هو ذاته دين السياسي، إذا اقتضت الحاجة. وقد لا يكون فـ"لكم دينكم ولي دين". هناك مواسم تريد الدولة أن تربحها كلها، ويريد الناشطون بعضاً من الغنائم.

بسبب فقر القراءة والخيال، تبدو الامتحانات التي تواجهها الأغاني وأشعارها بالتحديد، كأنها طارئة على إبداعات الشعوب والأفراد. دائماً حين يتحرك ناشطو الدين والعرف، يوحون لك بأن الأخلاق تتدهور لأول مرة في تاريخنا، وعلينا أن نقف وقفة رجل واحد.

الحال أن آلاف الأغنيات عبرت الزمان منذ آلاف السنين، وحُفظت ورُددت وطورت وعدلت دون أن يتخيل أحد شرطة دينية أو عرفية، لها مواسم للزوابع، والبيات الشتوي.

إن أغاني الحصاد في بلاد الشام، كانت وما زالت، وبشكل غالب تشتمل على غزل ريفي مكشوف بأجساد الصبايا، مما لا يمكن إيراده في هذه المادة لدواعي الرقابة. إنهم يهجمون على مناجلهم، ويغنون للأرض، والزرع، وزنود الرجال، وعيون الصبايا.

لاحظوا أيضاً أن الذين ينثرون البذور وينتظرون الحصاد والجني في الصيف، يغنون أغاني الزراعة البعلية، حتى وهم يؤمنون بأن المطر من فيض الرحمن، لا من الإله بعل.

وما زال منتظرو المطر في نجد والحجاز يسمون هذه الزراعة "عيثري" ويهزجون لمحاصيلهم الأهازيج. وما عيثري إلا عشتروت إلهة الخصب عند الكنعانيين، كما ذكر لي أستاذ الأنثروبولوجيا السعودي سعد الصويان في لقاء معه بالدوحة قبل سنوات.

الحاصل أن الرقابة الحرفية صنعت في أشباه المدن العربية، حيث تنشأ مؤسسات السلطة، ومن بينها سلطات التشريع والمؤسسات الدينية، وعلى هامشها ناشطون دينيون أو عشائريون (هؤلاء يديرون مدينة!) أو محامون يبحثون عن رزق سريع، يلعبون دور التبليغ عن النصوص الخارجة، فلا يكون على السلطة إلا أن تحقق في الصورة الشعرية والمجازات. وأي تحقيق حتماً ولزاماً لن يكون في صالح أي نص.

طوال القرون الماضية، كيف كانت تجري النصوص؟ هذا لا يهم. فمسطرة القياس، لا تعترف بوجود جغرافيا وتاريخ فني، حتى لو أنهما ذوا روح شعبية. الشعوب قد تكون ضالة وخارج مدينة الفضيلة، وتحتاج دوماً لمن يرشدها.

لنا أن نلتفت أيضاً إلى أن الخارجين ليسوا فقط من ذوي الشعر، والمغنى، ونقر الدف، والجرّ على الربابة. إن فتح هذا الباب على مصراعيه سيوسع قراءة كل وسائل التعبير التي تتناسل منذ آلاف السنين، وتجد نفسها فجأة أمام أحكام جديدة، أو سلطات تتربح من وراء ترسيخ الصورة التي تريد.

في عام 2007 اندلعت في فلسطين (الضفة الغربية) أزمة كتاب "قول يا طير" الذي طاردته وزارة التربية والتعليم، ومنعته ثم تراجعت، لما فيه من كلام "فاحش". مقابل هذا الفحش، لا ينظر الذين انتصروا للكتاب، سوى أنه أهم مرجع جمع ودرس الحكايات الشعبية الفلسطينية التي يتداولها الفلسطينيون "الفاحشون" منذ مئات السنين.

لنرجع إلى ما قبل منتصف القرن العشرين، ونقبض على نموذج ديني، لا ديني. هناك أربعون ألف لوحة خبئت في صحراء أوزبكستان، خوفاً من دين السوفييت الستاليني.

إن لوحة لامرأة سارحة في القمر كان يمكن أن تودي براسمها إلى منفى سيبيريا. لماذا؟ لأن على الفنان أن يمجّد عمال المصانع وأبطال الثورة، لا أن يوهن عزيمة الشيوعيين بلوحات حالمة، فارغة.

إن اللوحة ذاتها أمام ناشط ديني في الوطن العربي سيحكم عليها بالإعدام بالطريقة نفسها وبمرجعية مختلفة. هناك دين ستاليني وهنا دين سماوي، وفي واقعة مارسيل خليفة بمهرجان بعلبك أوائل الشهر الجاري، حين غنى للمدينة بدل النشيد الوطني، سنكون أمام دين آخر: دين وطني، نسخة متردية من الدين العشائري.

لم يكن لمغن نكرة اسمه "زين العمر" أن يذكر في أيما سطر إبداعي. إن اسمه الفني الحركي لا يحيل إلى أي تجربة غنائية، بقدر ما يحيل إلى إعلان وكالة سفريات. بيد أنه قرر أن يغتنم الفرصة، ويصبح ناشطاً للدين الوطني، ويكفّر مارسيل ويخرجه من الملة اللبنانية. لقد بصق في تغريدته على اسم واحد من أبرز المؤلفين الموسيقيين في تاريخنا العربي المعاصر. ولمع فجأة اسم زين العمر كفقاعة صابون، ثم عاد إلى مكانه الطبيعي في مجاهل النسيان.

في شبه المدينة العربية، يسعى الناشط الديني والعرفي والسياسي إلى اختيار نموذج يحاكمه، ليضمن رزقه. إنه لا يستطيع القبض على كل هذا "الفسق" و"التجديف"، وإنما هو بحاجة لإثبات وجوده، فيزوبع حول نفسه، أو تهب زوبعة فيركبها.

هذه أغنية "يما القمر عالباب" لفايزة أحمد هوجمت في مصر، لكن الأردن كان أكثر حسماً فمُنعت في الإذاعة، لأنها فاسقة. إذ تقول البنت فيها "يمّا أردّ الباب ولا أناديله؟"، أي أنها فتنت بالواقف على الباب، وتستأذن أمها بأن تدخله إلى البيت.

الإذاعة نفسها تبث طوال الوقت أغنية وديع الصافي "بتروحلك مشوار". لم ينتبه أحد ويقارن بين الفتاة المراهقة التي تستأذن أمها في أغنية فايزة أحمد، وهذا الرجل الذي تسأله زوجته "بتروحلك مشوار؟"، فيرد "قلتلها يا ريت. قالت لكن أوعى تغار حواليي العشاق كتار. قلتلها بطّلت، خلّيني بالبيت".

وبهذا على الزوجة أن تترك زوجها في البيت، الذي سيزعجه هذا النحل المحيط بزهرته وأمام عينه.

ستمر أغنية "كيفك أنت" للمغنية فيروز، وهي عن امرأة تعشق رجلاً متزوجاً ومنجباً، تقول له "شو بدي بالبلاد. الله يخلي الولاد. كيفك انت؟".

لا يمكن السهر على مراقبة احتمالات "الفسق"، فتجري عادة أخذ نماذج فاقعة، من طراز "ليكون عبرة لمن يعتبر". فالشيخ كشك في أواسط سبعينيات القرن الماضي فرغ وقتاً مقدراً،  للتهكم على مغنين مثل محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ اللذين غنيا "لست أدري"، وأتبعها عبد الوهاب بأغنية "من غير ليه". في الأولى تقول الأغنية "جئت لا أعلم من أين"، وفي الثانية تقول "جايين الدنيا ما نعرف ليه".

لا يجوز وفقاً للشيخ ألا يعلم المرء من أين أتى، ومن في يده معرفة المنتهى والمصير، مع أن لا الشاعر ولا المغني ولا الموسيقي، ولا المستمع، يذهب في تعبيراته إلى لغة تقطع مع إيمانه. هذا فن، يترك لنفسه أن يقول، ويبالغ، ويتخيل، ويحلم، بلغة شعرية، لا اللغة التي تكتب فيها المحاضر والمواثيق القانونية.

واختير كذلك نموذج شادية "غاب القمر يا ابن عمي يلا روحني"، فماذا تفعل صبية مع ابن عمها حتى ما بعد غياب القمر؟ لكن أغنية فيروز ستمر، مع أن الصبية فعلت الفعل ذاته "لا تعتب عليي أخرني القمر"، فهي زارت حبيبها بعدما سهرت مع أهلها على ضوء القمر. أي أنها فعلت فعلتها بعد منتصف الليل بتوقيت لبنان.

مقابل هذا، نشأت رقابة ذاتية لدى المغنين، كما في مثال جورج وسوف مع "الأطلال". فحين غنى عبد الحليم حافظ آخر أغنياته "قارئة الفنجان" طلب تغيير مقطع "من مات على دين المحبوب"، فأصبح "من مات فداء للمحبوب". لا يريد أن يقف المغني أمام ورطة جديدة، بعد أغنية "لست قلبي" والمقطع الذي يقول "قدر أحمق الخطى".

وبعد هذا بعقود سيأتي كاظم الساهر في أغنية "زيديني عشقا" ويعدّل "جسمُك خارطتي.. ما عادت خارطة العالم تعنيني" إلى "حبّك خارطتي".

وبقي مارسيل يغني "أحن إلى خبز أمي" ويقول "عساني أصير إلهاً، إذا ما لمست قرارة قلبك"، بينما في نسخة متأخرة يقرر الشاعر محمود درويش القول "عساني أصير ملاكاً"، مع أغلب الظن أن تعديلها من الشاعر جمالي، لا رقابي.



هذا غيض من فيض. الفيض الإبداعي لا يعدم وسيلة لخلق إطاره، وتكسيره. أما الناشط الموسمي، فإنه إذا نجح بمحاكمة أغنية وشاعر، فبها ونعمت، وإذا لا، فيكون على الأقل كالموظف البيروقراطي الذي يترك جاكيتته على كرسي العمل، مؤكداً حضوره.

المساهمون