جوائز "كانّ" 2019: ارتباكات وتجاوزات وتوجّسات

جوائز "كانّ" 2019: ارتباكات وتجاوزات وتوجّسات

28 مايو 2019
ماتي ديوب: جائزة لا تستحقّها (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -

مساء السبت الفائت، أُعلنت ـ على خشبة مسرح "صالة لوميير الكبرى" في "قصر المهرجانات" ـ نتائج المسابقة الرسمية للدورة الـ72 (14 - 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي. إعلان الجوائز سبَّب دهشة كبيرة، وطرح علامات استفهام متعددة، وأثار توجّسات لدى نقّاد وصحافيين وسينمائيين، تابعوا تلك الدورة.

ورغم مشاركة أسماء بارزة ومتعددة في المسابقة، إلا أنّ هذه الأخيرة لم تخلُ، كالعادة، من تشكيلة ثابتة، مقوّماتها متكرّرة في مهرجانات مختلفة، وإنْ كانت ملحوظة أكثر في "كانّ". تضمّ التشكيلة أفلامًا فنية، وأخرى لكبار المخرجين، تتناول قضايا ذات أبعاد فلسفية وإنسانية واجتماعية ونفسية، ويغلب عليها الطابع الفني. بعض الخيارات يُراعي التوزيع الجغرافي (بحسب القارات أحيانًا) قدر الإمكان. وهناك أفلام تتعلّق بالمناخ السياسي الآنيّ (الهجرة والتطرّف الإسلامي في الغرب مثلاً)، بالإضافة إلى أفلام إثارة وقتال بين عصابات إجرامية وتجّار مخدّرات ورجال مافيا. أخيرًا، هناك فيلمٌ أو أكثر عن المثلية الجنسية.

أما الدهشة الناتجة من إعلان الجوائز، فمتأتية من أن الجميع استبشروا خيرًا عند إسناد رئاسة لجنة التحكيم إلى المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو. وازدادت الآمال مع إعلان أسماء أعضاء اللجنة، وبينهم المخرجان اليوناني يورغوس لانتيموس والبولندي بافل بافليكوفسكي. لكن معظم نتائج تلك اللجنة مخيّبٌ للآمال، أو غريب وغير مفهوم. فرغم اتفاق الجميع ـ منذ البداية، ومع إعلان أسماء المخرجين الكبار المشاركين في المسابقة ـ على أن مهمّة اللجنة "لن تكون يسيرة نهائيًا"، بصرف النظر عن أسماء أفرادها، إلّا أنّ أحدًا لم يتوقّع أنْ تكون النتائج على هذا النحو.

علامات الاستفهام نابعة من تجاهل اللجنة، ومعظم أعضائها مخرجون بارزون لكلّ واحد منهم سينماه المتميزة، أعمالاً فنية كادت تصل إلى مرتبة "التُحف الفنية"، أو يصعب جدًا عدم التوقّف عند عمقها وإنسانيتها وفنيّاتها المتجلّية في السيناريو أو الإخراج أو التمثيل، كـ"حياة خفية" للأميركي تيرينس ماليك، و"ألم ومجد" للإسباني بيدرو ألمودوفار، و"عفوًا، لم نجدك" للبريطاني كِنْ لوتش، و"لا بدّ أنْ تكون الجنة" للفلسطيني إيليا سليمان. انحازت اللجنة إلى أفلام أقلّ جمالاً واكتمالاً وفنيةً، بمنحها جائزة "لجنة التحكيم الكبرى" لـ"أتلانتيك" للفرنسية السنغالية ماتي ديوب، و"جائزة الإخراج" للأخوين البلجيكيين جان - بيار ولوك داردان عن "الفتى أحمد".



في ما يتعلق بالتوجّسات، فهي كثيرة، إذْ بات راسخًا، دورة تلو أخرى، أنّ هناك قدرًا من المحاصصة بين الرجال والنساء، إلى درجة الهيمنة على المهرجان. بدأ هذا في دورات سابقة، وازدادت وتيرته العام الماضي. بالإضافة إلى إنصات المهرجان إلى صوت حركة "مي تو"، على النقيض التام لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي" العام الماضي. في النهاية، بات مهرجان "كانّ"، وغيره وإنْ بقدر أقل، خاضعًا لنوع من الابتزاز، يتعلّق بضرورة مشاركة مخرجات في أقسامه المختلفة، خصوصًا المسابقة الرسمية، واختيار سينمائيات في لجان التحكيم. في الأعوام الأخيرة، بات يصعب على لجان التحكيم في المهرجانات الكبرى تجاهل أفلام المخرجات، حتّى وإنْ لم ترقَ مساهماتهنّ الفنية إلى مرتبة الاشتراك في المسابقة أصلاً، وليس فقط بنيل جوائز.

فوز "أتلانتيك" بجائزة "لجنة التحكيم الكبرى"، ثاني أهم جائزة بعد السعفة الذهبية، "صارخٌ" في غرابته. هذا يعني أن اللجنة رأته "الأفضل" بعد "طُفيليّ" للكوري الجنوبي بونغ - يون هو، المُستحِق بجدارة "السعفة الذهبية". بهذا، اعتبرت اللجنةُ أن "أتلانتيك" متفوّق على أعمال مخرجين كبار مُشاركين في دورة هذا العام. لكن، وبعيدًا عن مقارنته بأعمال هؤلاء الكبار، فإن "أتلانتيك" بحدّ ذاته يشوبه ضعف في مستويات متعددة. لذا، يبدو أن موضوع الهجرة والمهاجرين لا يزال يُثير اهتمام المهرجانات ومانحي الجوائز وجهات الدعم والتمويل، خصوصًا إنْ يكن مخرج العمل امرأة.

الأمر نفسه بخصوص التطرّف الإسلامي في الغرب، خصوصًا في أوروبا: موضوع يجذب دعمًا وتمويلًا، ومهرجانات وجوائز. القضية مهمّة جدًا بالتأكيد، فخطورتها ممتدّة إلى خارج حدود تلك البلدان. لذا، لم يعد يخلو مهرجان أو مسابقة رسمية لمهرجان كبير من مشاركة مخرجين كبار وشباب، تطرح أفلامهم هذا الموضوع، بصرف النظر عن مدى فهمهم الظاهرة، أو عن مدى تمكّنهم من طرحها ومعالجتها، والاقتراب منها.

لذا، ومنذ إعلان اختيار "الفتى أحمد" للأخوين داردان في لائحة الأفلام المُشاركة في المسابقة الرسمية لدورة 2019، مع نبذة عنه، سادَ قلقٌ وتشكيك كبيران، تأكّدا أكثر مع مشاهدته، وتبيان سوئه وسذاجته وسطحيته. أما الكارثة، فمتمثّلة في منح الفيلم جائزة الإخراج "ضد" 5 أفلام على الأقلّ، لم يكن ليختلف عليها أحد، هي الأحقّ بها. لكن، بات مؤكّدًا أن أي فيلم يتعلّق بالهجرة، وإنْ خفّ الاهتمام بها الآن ولو نسبيًا، أو يرتبط بالتطرّف أو الجهاد الإسلاميين في أوروبا، بين المهاجرين الجدد أو مع أبناء الجيلين الأول والثاني، سيحظى من دون أدنى شكّ بكلّ تقدير واحترام وترحيب، وربما بجوائز أيضًا.

توجّسات أخرى أُثيرت إزاء المشاركة السنوية لشركات إنتاج محدّدة في المهرجان وبرامجه الرئيسية، وغالبيتها فرنسية الأصل، وهذا مقبولٌ في ظلّ اعتبارات إنتاجية متعددة، تتعلق بسوق التمويل الفرنسي للأفلام. التوجّسات ليست ضد المشاركة، لكنّ أعمالها لا تستحقّ أن تكون في مسابقة مهرجان عادي، وليس فقط مهرجانًا بحجم "كانّ" واسمه وعراقته، لكنّ المهرجان يتعامل مع تلك الشركات منذ أعوام. وجزء من هدفه كامنٌ في "ضمان" اجتذاب نجوم كثيرين للسير على سجّادته الحمراء. هذا بارز بشكل واضح في الدورة الـ72 تلك، مع الفيلم الأميركي الفرنسي "فرانكي" للأميركي إيرا ساكس، تمثيل الفرنسية إيزابيل أوبير؛ و"سيبيل" للفرنسية جوستين ترِيَات، تمثيل الشابة أديل إكزاركوبوولوس.


إلى ذلك، اعتُبر منح جائزة أفضل ممثل للإسباني أنتونيو بانديراس عن دور سالفادور، في "ألم ومجد"، تكريمًا وإهداءً خاصّا للمخرج بيدرو ألمودوفار نفسه. فاللجنة لم تستطع منح الفيلم ومخرجه أية جائزة أخرى، كـ"السعفة الذهبية" أو الإخراج أو لجنة التحكيم أو السيناريو، فرأت أن "أفضل ممثل" منصفة له. لا يعني هذا أن أداء بانديراس لا يستحق الجائزة، بل بالعكس، لأنّ أداءه تلك الشخصية يُعتبر من أجمل وأعمق وأنضح ما قدّمه إلى الآن، خلال مسيرته الطويلة.

والجائزة تلك مثيرة لحيرة كبيرة، إذْ هناك كثيرون يستحقونها، وهذا على نقيض الأداء النسائي "الباهت" في غالبية الأفلام، الذي لم يُلفت انتباه أحدٍ إلا نادرًا. لذا، لم يُثر حصول البريطانية إيميلي بيتشام على جائزة أفضل ممثلة، عن دور أليس في "جو الصغير" للنمساوية جيسيكا هاوزنر، حماسة واهتمامًا. الفيلم نفسه لم ينل إعجابًا ولم يُحدث نفورًا، بل وُصف فقط بأنه غريب وتجريبيّ، علمًا أنّ أداء بيتشام لا يستحقّ الجائزة أبدًا.

دلالات

المساهمون