البرامج الرمضانية المغربية... ابتذال بصريّ

البرامج الرمضانية المغربية... ابتذال بصريّ

25 مايو 2019
محمد الجم من أهم صناع الماضي الدرامي (فيسبوك)
+ الخط -
هل قطعنا حقًا تلك الأشواط الفنية الطويلة من الحداثة البصرية، التي تجعلنا كبقية الشعوب، نجلس ونستلقي أحيانًا أمام شاشة التلفاز، لنضحك ونقهقه عاليًا؟

يُطرح هذا السؤال مع حلول شهر رمضان في المغرب، الذي لا ينفكّ يُعرّي براءة أعطابنا الفنية، ويكشف رداءة المنتوج الفني الوطني. ليس هذا فقط ما يُثير قلقًا وحزنًا، بل نسبة المُشاهدة غير المتوقّعة، التي نالتها برامج مغربية مبتذلة، كـ"مشيتي فيها"، الذي مداره السخرية، لكن ليس بما هي عليه من "فنّ مداراة اليأس"، كما يقول بوريس فيان، بل بكونها "ضحك على الذقون"، بحسب التعبير الشعبي. فالبرنامج مجرّد حركات بهلوانية، وقهقهات فارغة، وأداء هزلي سخيف مدفوع الأجر، يفتقر إلى حبكة وموضوع، ويُشعر مُشاهده بالغبن والحزن: فيجد نفسه مضطرًا، بشكل عصبيّ، إلى البحث عن برامج فرنسية أو مسلسلات عربية أخرى، كالمسلسل السوريّ المتميّز "ترجمان الأشواق" لمحمد عبد العزيز (مخرجًا وكاتبًا)، وغيرها من المسلسلات العربية، التي تكون ملاذًا آمنًا بعد شوط طويل من القرف.



منذ أعوام، ومع حلول شهر رمضان، تُقدَّم أعمالٌ فنية كهذه بسخاء وكرم، وبشكل متعمَّد، إلى المُشاهد المغربي. كأن شركات إنتاج هذه البرامج تسخر من ماضينا الفني، والذي بنى مجدَه مخرجون وممثلون كبار، كمحمد الجمّ وعبد الرؤوف وَفْلان والبسطاوين وغيرهم من الكوميديين، الذين نفتقدهم خلال هذا الشهر، هم الأقدر على تجميل شاشاتنا من قبحها ومراثيها التي تزداد سوءًا. والأخطر يتعلّق بأحد برامج الكاميرا الخفية (المكشوفة)، إذْ يُستدعى ممثلون هواة من المسرح والسينما لتأدية أدوار متّفق عليها مسبقًا، ما أثار زوبعة في وسائل التواصل الاجتماعي حول حقيقة برنامج الكاميرا الخفية، الذي تبثّه القناة الأولى منذ أعوام. بعد انتهاء البرنامج، يجد المُشاهد نفسه ضحية كاميرا خفية هجينة ومكشوفة، ومخرج عاجز فَقَد بصيرته الجمالية، فأصبح يعاني فقرًا مدقعًا في الإبداع.

ونظرًا إلى الانتقادات اللاذعة والمشروعة، الموجّهة إلى القناتين الأولى والثانية في هذه الأيام، بخصوص ضحالة المنتوج التلفزيوني الرمضاني، خاصة في فترة الإفطار، والتي تشهد أعمالاً مستوردة بغالبيتها من فرنسا وأميركا، لكنها مُطعّمة بلمسة مغربية يُعاد إنتاجها بشكل هجين، بسبب هذه الانتقادات، شاركت "جمعيات" مدنية ومجموعات سياسية براغماتية في السجال الحاصل على "فيسبوك"، للدفاع عن صورتها ولتلميعها أيضًا، ولجعل "الزوبعة الفنية" حدثًا يُستغلّ لإضفاء مشروعية فنية على برامجها السياسية السنوية الهزيلة.

بمثل هذه الأعمال السطحية، لا أفق فنيًا وجماليًا للمغرب. بل أكثر من ذلك، هناك جهات وصيّة على الشأن الفني ـ الثقافي المغربي، تتعمّد اليوم خلق مجتمع ضائع، عبر الترفيه الاستهلاكيّ والتصفيق المجانيّ، وهذه من بين أهم التوجّهات الجديدة، الطافية على الساحة المغربية منذ ثمانينيات القرن الماضي، بتمريرها عبر جهاز الإعلام، التابع بمجمله للدولة، وحتى عبر الإعلام الخاص، المدعوم كليًا من الدولة، فيُصبح تابعًا لها وخاضعًا لقوانينها ولـ"هسهساتها" الخرافية وسياساتها اللاثقافية، ويشتغل وفق منطق السوق والطلب والجمهور "عايز كدا".
ورغم جودة التصوير والوسائل التقنية المتطوّرة، التي تُلمَس في تصوير الأفلام والمسلسلات والبرامج المغربية، لا تزال الحاجة ماسّة، وأكثر من أي وقت مضى، إلى جودة المنتوج المُقدّم إلى المُشاهد المغربي، وهذا حقٌّ مشروعٌ له، كالحقوق الاجتماعية البسيطة الأخرى، كالكرامة والعدالة وحرية التعبير والأمن، وأيضًا الحقّ في الفن والجمال، الذي يُطالِب كثيرون به الجهات الوصية على السمعيّ البصريّ في المغرب.

غير أنّ سؤال أزمة التلفزيون المغربي أكبر بكثير مما يُعتَقد، فهو منسحبٌ على الممثل والمخرج والناقد والمنتج، وغيرهم ممن يشتغلون في المجال السمعيّ البصريّ، وفي إنتاج دلالاته ورموزه الذين يفتقرون إلى أيّ حدس نقدي، يدافعون به عن حقلهم الفني، وما يعانيه هذا القطاع الحيوي من حيف. سؤال الأزمة، الذي يعانيه هذا القطاع، يفرض إعادة تعريف مفهوم المثقف. فالممثل، أكثر مما هو "بهلوان"، يقبل بأداء دور في برنامج سخيف، لكن عليه أن يمتلك القوة لرفض أدوار كهذه، باعتباره "مُثقفًا" صاحب رأي وموقف، يدافع بهما عن كرامته في المهنة التي يشتغلها منذ أعوام، بالتعبير عن مواقفه السياسية والاجتماعية والثقافية، إزاء هذه الأعمال الضعيفة.

دلالات

المساهمون