"في انتظار البرابرة" لثيرو غيرّا: صناعة الخوف

"في انتظار البرابرة" لثيرو غيرّا: صناعة الخوف

30 أكتوبر 2019
مارك ريلانس "منتظراً البرابرة": أجمل أدواره (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في أول أفلامه الناطقة بالإنكليزية، استطاع المخرج الكولومبي، الصاعد بقوة، ثيرو غيرّا (1981)، تقديم نفسه في ثوب مغاير. فيلمه هذا، "في انتظار البرابرة"، يختلف كثيرًا عن الأجواء التي قدّمها في أعماله الأخيرة، خاصة في "عناق الأفعى" (2015) و"طيور المعبر" (2018)، المهتمّين بإبراز التراثيّ والفولكلوريّ في بيئته، بتنوّعاتهما.

اعتاد غيرّا كتابة سيناريوهات أفلامه، مقتبسًا جديده هذا عن رواية الكاتب الجنوب أفريقي جون ماكسويل كويتزي (1940)، بالعنوان نفسه (1980)، الصادرة بالعربية، بترجمة ابتسام عبدالله، في طبعتين: أولى، عن "المجلس الأعلى للثقافة" (القاهرة، 2000)، وثانية عن "المركز الثقافي العربي" (بيروت، 2004). عنوان رواية كويتزي، الحاصل على "نوبل للآداب" عام 2003، يتطابق والقصيدة المشهورة والرائعة لليوناني قسطنطين كفافيس (1863 ـ 1933)، "في انتظار البرابرة" أيضًا (1898)، التي تنوجد روحها في الرواية، ما يعكس إبداع كويتزي، الذي سحبها إلى السياسيّ أيضًا.

أجواء الرواية ووقائعها وأحداثها تتقاطع، إلى حدّ بعيد، مع رواية "صحراء التتار" (1940)، للإيطالي دينو بوزّاتي (1906 ـ 1972)، المترجمة أخيرًا إلى العربية، بقلم معن مصطفى الحسون (عن الإيطالية مباشرة)، والصادرة بطبعة حديثة عن "دار آفاق للنشر" (القاهرة، 2016). لكن هذه الرواية، على نقيض رواية كويتزي، تستلهم قصيدة كفافيس، وتجنح إلى الذاتيّ في الشخصية الرئيسية، بالغة الروعة والتركيب، والمهووسة بانتظار البرابرة طيلة حياتها لمحاربتهم، وصناعة مجد شخصي. وعندما يصل البرابرة، يكون الأمر متأخّرًا كثيرًا بالنسبة إليه.

في قصيدة كفافيس ورواية كويتزي وفيلم غيرّا، لا يصل البرابرة. كأنّ أمرهم مجرّد أوهام وتوجّسات، ترقى إلى الاصطناع والزيف، لإثارة الخوف، والإبقاء على فكرة العدو، والحرب الوشيكة، والدفاع عن النفس ضد خطر مقبل. بطريقة مباشرة، يشير كويتزي، بإدانة جلية، إلى ذهنية رجل الأمن أو المخابرات، بهواجسها وتوهّمها من خطر يشكّله البرابرة. في مقابل حكمة قاض مسالم، استقى خبرته من الواقع. لكن، يستغل الفيلم والروايتان "البرابرة"، كلّ بطريقة مختلفة: إمّا لصناعة مجد، وإمّا للإبقاء على الرعب والخوف.

يتناول سيناريو فيلم غيرّا، كما رواية كويتزي، تدمير حيوات وممالك، وإبادة أمم وشعوب، باسم شعارات كبيرة، كالوطن ومحاربة الأعداء. يتناولان أيضًا صناعة الخوف، وبثّه في النفوس، التي (الصناعة) عاشت عليها الإمبراطوريات الغابرة، ولا تزال الأنظمة الأمنية والمخابراتية والقمعية الحالية تعتاش منها، بتغذية الذعر في الرعية، وإبراز الخطر المحيط، بغية البقاء في حمايتها واللجوء إليها، طلبًا للأمان. كما أنهما صرخة ضد الفاشية ومواجهة المجهول وإشعال الحروب ضده، باسم مكافحة الإرهاب، أو الخوف من الآخر.


يُحيل هذا إلى أحد أهم الكتب النقدية والفلسفية الصادرة قبل أعوام، "الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات" للفيلسوف والباحث والناقد الأدبي البلغاري تزفتان تودوروف (1939 ـ 2017)، الذي ترجمه إلى اللغة العربية جان ماجد جبور ("كلمة"، أبو ظبي، 2009). فيه، حلّل تودوروف إشكالية الآخر، والخوف منه عبر التاريخ، وصولا إلى العصر الراهن، مُستلهمًا كلمة البرابرة، التي تتبَّعَ نشأتها منذ أن استعملها اليونانيون، إلى الآن، مرورًا بتداخلها مع الـ"كزينوفوبيا"، أي كراهية الأجانب.

خلص تودوروف إلى نقاطٍ تتقاطع مع رواية كويتزي وفيلم غيرّا: الخوف مُبرِّر أساسي للتصرّفات التي تُصنَّف غالبًا باللا إنسانية؛ ومقابل التغلّب على الخوف، بل إزاحته بالأحرى، تُقْبَل التصرّفات كلّها؛ وحين يُسمح بكلّ شيء لمحاربة الهلع، يتلبّس المُتصدّي للإرهاب صورة الإرهابي. ويتساءل تودوروف عن كيفية الفرح بالانتصار على عدوّ، إنْ يكن السبيل إلى الانتصار أن نصبح مثله؛ وكيف أن معاملة الآخر ـ المختلف عنا، لعدم فهم اختلافه وطبيعته ـ على أنه لا إنساني وأنه وحش ومتوحّش، هي البربرية عينها.

في أربعة أقسام، يحمل عنوان كلّ منها أسماء فصول السنة، يروي الفيلم قصّة قاض (مارك ريلانس، في أحد أجمل أدواره وأعمقها)، يترأس موقعًا استعماريًا مجهولاً وسط الصحراء، يقع على الطرف الأقصى لحدود إحدى الإمبراطوريات، مطلع القرن الـ20. الموقع محاط ببلدة صغيرة، يعيش أبناؤها جميعهم بهدوء وسلام، إلى درجة أنّ السجون الخاوية تُستخدم لتخزين الغلال. ليس لدى القاضي، الذي لا اسم له، ما يفعله. يشغل نفسه طوال الوقت بالعمل على لفافات ورقائق مكتوبة بلغة يعترف بأنّه لا يفهمها، محاولاً إصلاحها وترميمها، ومعتنيًا بها. ورغم أنّه لا يعرف اللغة، إلاّ أنّه يُدرك مدى أهميتها الثقافية والتاريخية. والقاضي يختلط بأهل البلدة، ويرتدي زيّهم، ويأكل مآكلهم، وينخرط في ثقافتهم.

ذات يوم، يأتي البلدة الكولونيل جول (جوني ديب، في دور باهت تمامًا) للتحقيق في تعدّيات البرابرة، الذين يهدّدون الإمبراطورية، وفي احتمال قيامهم بانتفاضة ضدها. أهذا حقيقي؟ لا أحد يعرف. الصورة العامة لا تشير إلى إمكانية حدوث أي شيء. الأمور هادئة. هذا لا يمنع جول من ممارسة اعتقالات تعسفية ضد سكان الصحراء البدائيين، واستخدام أبشع أنواع التعذيب لانتراع الاعترافات منهم. بنظره، "الألم هو الحقيقة، وكلّ ما عداه يخضع للشكّ".

إحدى ضحاياه فتاة جميلة ذات ملامح قوقازية (غانا بايارسيخان)، جسمها مُشوّه وبصرها مفقود. لكنها تجد في القاضي حبًا واهتمامًا ورعاية، إذْ يُعاملها معاملة ملائكية خاصة، كأنه مسؤول عمّا جرى لها. ثم يعيدها إلى أهلها لاحقًا، ما يؤدّي إلى اعتقاله وتعذيبه وسجنه، هو الآخر، على يدي الضابط السادي ماندل (روبرت باتّينسون). العلاقة الشاعرية بين الفتاة والقاضي، أو الخيط الجانبي في الحبكة، مقارنة بالرواية، يستغرق وقتًا قليلاً في الفيلم، لكنْ أُبقِيَ عليها لأهميتها في إبراز النقيض، أو الوجه الآخر، المتمثّل في شخصية القاضي المُسالم والمثقف، وفي التقرّب من الآخر وفهمه، مقابل البشاعة والتعذيب وكراهية الآخر وضرورة القضاء عليه، المتجسّدة كلها في جول، ومساعده ماندل.

في الرواية، تفاصيل كثيرة مواربة وغامضة، ما يضفي عليها تشويقًا بالغًا، ويطلق العنان لمخيلة القارئ. صحيح أنْ رمزية الرواية، وما ترمي إليه إجمالاً، واضحة بجلاء في الفيلم. لكن هذا الأخير يفتقر إلى متعة الرواية وتشويقها، بل يفتقر إلى لمسة ثيرو غيرّا، الذي لم يشأ أن يمضي بعمله، كما فعل كويتزي وبوزّاتي، في اتّجاه آخر، وطرح رؤية أخرى، أو إضافة لمسة خاصة، مكتفيًا بأمانة التجسيد الفني، والوصول به إلى ذروته السينمائية قدر الإمكان. لكن، رغم الجماليات السينمائية في الفيلم، وسحر التقنيّ والبصريّ منها، واختيار الأماكن والأزياء، واستغلال الإضاءة والمناظر الطبيعية، لم يضف عمل غيرّا أي جديد على العمل الأدبي.

مع هذا، تبقى أهمية الرسالة، المنوط إيصالها إلى البرابرة الحقيقيين في عصرنا.

دلالات

المساهمون