النقد السينمائي المغربي: غياب مشروع ووفرة صحافة

النقد السينمائي المغربي: غياب مشروع ووفرة صحافة

26 سبتمبر 2018
هشام العسري: حضورٌ سينمائي طاغ (فيسبوك)
+ الخط -
تعود الجذور المعرفية والفلسفية لمصطلح "النقد" إلى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 ـ 1804)، في كتابه المؤسِّس للفكر والخطاب الجمالي الغربي "نقد ملكة الحكم" (1781). مصطلح يروم أساسًا نقد البنيات والأسس وفكّ الشيفرات المُلغَّزة، التي تقوم عليها صناعة العمل الفني.

إذًا، فإنّ العملية النقدية جزء لا يتجزأ منه، بل تفكير مُصاحب للعمل الفني في شروط تحقّق البُعدين المعرفي والجمالي، الذي (التفكير) تميّزت به الموجة السينمائية الجديدة في فرنسا مثلًا، مع أندره بازان (1918 ـ 1958) وسيرج داناي (1944 ـ 1992)، خلافًا لما يُسمّى النقد الانطباعي، الذي يرتكز على قراءة "عاشقة"، يتقاطع فيها الفني بالأدبي، وصولًا إلى المقالة الصحافية، التي تُعرِّف بموضوع الفيلم ومخرجه، وتظلّ أمام عتبة التفكير من دون الولوج إلى أفق صورة الفيلم وعمقها، وما يختزنه الفيلم من أبعاد فلسفية يبني المخرج بها رؤيته للعالم سينمائيًا. 

أي كتابة سينمائية اليوم يُفترض بها أن تنحو إلى التفكير في الفيلم، وفي علاقته بنمط إنتاج الصورة وجمالياتها، لا باعتبارها وجودًا مستقلًا عن الفيلم؟ هذا مطبّ قراءات نقدية مختلفة تشُرِّح الفيلم العربي بعيدًا عن تشكّل الصورة وجمالياتها من حيث زوايا الكاميرا واللقطات والحركة والسكون وبؤرة الصورة، التي تشتغل كضرورة فكرية لا تقنية.

تساؤلات كهذه وغيرها تطرحها "العربي الجديد" على 3 نقّاد سينمائيين مغاربة، وهي تحاكي جوهر النقد وواقعه في السينما المغربية، وتتعلّق بحالة النقد المغربي ومميزاته ومقوّمات كتابته، وتهدف إلى إعادة قراءة علاقة النقّاد بالعاملين في الصناعة السينمائية، وصولاً إلى مدى إمكان مواكبة هذا النقد الأعمال السينمائية المغربية المختلفة.



عبد الكريم واكريم: النقد المغربي هو الأهم عربيًا
يرى عبد الكريم واكريم أن الكتابة عن السينما في المغرب تتأرجح بين الصحافي والانطباعي من ناحية أولى، والأكاديمي التنظيري الجاف من ناحية ثانية، وبينهما كتابات نقدية يقتصر همّها الأساسي على قراءات فيلمية، يحاول أصحابها تحليل الأفلام انطلاقًا من مرجعية "سينفيلية"، وتستند إلى مرجعيات أخرى، كعلمي النفس والاجتماع، والفلسفة وغيرها من الحقول المعرفية، بحسب ما تمليه النصوص الفيلمية.

يُضيف واكريم أن الكتابات الأكاديمية الصرفة تُسقط غالبيتها على الفيلم مناهج جافّة عليه، و"تقوِّله" ما ليس فيه، فيُصبح المنهج مُقدَّسًا، وتضيع الحقيقة المعرفية بين السطور، التي يتوه كُتّابُها وهم يلوون عنق الموضوع المُتنَاول لبلوغ هدفٍ مُسطَّر سلفًا، كأنهم يحاولون إدخال شيء ما في إناء أوسع منه، فيترك فراغًا واضحًا وفاضحًا، أو ضيّق عليه فتكون عملية الإدخال صعبة ومتعسّفة.

عن علاقة النقّاد بالعاملين في السينما، يقول إنه مقتنع بضرورة الإبقاء على مسافة بين الطرفين، وعلى ألّا تكون هناك صداقات حميمة بينهما، لأن ذلك، إنْ حدث فسيكون على حساب الناقد وانطلاقه وموضوعيته، ولصالح المخرج وأفلامه، مهما كان مستواها الفني والسينمائي: "في المغرب، هناك علاقات وصداقات بين مخرجين عديدين والنقّاد، تجعل هؤلاء الأخيرين متأثّرين (سلبًا) إذْ يكتبون إيجابيًا عن أفلام ضعيفة لمخرجين أصدقاء، أو يتغاضون عن أفلامٍ كهذه فلا يُعلنون آراءهم النقدية حولها، بسبب المصالح المشتركة التي تجمعهم بالمخرجين".

يضيف عبد الكريم واكريم أن غالبية النقد السينمائي المغربي "متأثّرٌ ـ بشكل من الأشكال ـ بالنقد السينمائي الذي ظهر وتطوّر في فرنسا خصوصًا، وهو بشكلٍ عام نقدٌ جيّد ومتعدّد الاتجاهات"، مُشيرًا ـ في الوقت نفسه ـ إلى عدم وجود مشروع نقدي سينمائي مغربي بالمعنى الحقيقي للكلمة: "لكن، لكلّ ناقد توجّهه وأسلوبه النقدي المبني على مرجعيات مختلفة قد تكون فلسفية أو مستندة إلى علم الاجتماع أو "سينفيلية" أساسًا، أو بعض هذه التوجّهات والمراجع". ورغم ما يمكن ملاحظته على النقد السينمائي في المغرب، "فهو يظلّ ـ بشهادة متابعين له ـ من أهمّ ما يُكتب عربيًا، لاجتهاد أصحابه، ولكونهم متابعين ومطّلعين على ما يُنتج عالميًا وعربيًا ومغربيًا".



سعيد المزواري: لا مشروع نقديًا في المغرب
أما سعيد المزواري فيؤكّد "أنّ النقد السينمائي الصحافي ليس مشكلة، بل جنس نبيل له أبجدياته وقواعده، وله دور أساسي يقوم به داخل منظومة النقد السينمائي"، مُقدِّمًا مثلاً على ذلك بقوله إنّ أبرز دليل على هذا "انخراط أسماء كبيرة فيه، كسيرج داني في تجربته المجيدة على صفحات "ليبراسيون" في ثمانينيات القرن الـ20". يُضيف أنّ "وضعية النقد السينمائي في المغرب مُعقّدة للغاية بحكم تعدّد المشارب واختلاف المقاربات وتفاوت المستوى، ما يجعل التطرّق إليها (الوضعية) بإطلاق أحكام قيمة أو أوصاف جاهزة ضربًا من العبث". لكنه يورد سمتين هما، بالنسبة إليه، أهم ما يطبع الممارسة النقدية المغربية: "ندرة المرجعية الـ"سينفيلية" الكافية والمحكمة بين كتّاب النقد السينمائي في المغرب، ما يجعل معظمهم يستندون إلى مرجعيات أخرى، في مقدّمتها الأدب؛ وطغيان المقاربة الأكاديمية على النقّاد المغاربة، ما يُنتج مقالات لا هي بالنقد الفيلمي ـ كما هو الحال في المجلات المعروفة ـ ولا هي بالدراسات الأكاديمية الرصينة وفق المعايير الجامعية، التي تُعدّ بدورها جنسًا قائمًا بحدّ ذاته، له دور لا يمكن التغاضي عنه في إغناء الجانب النظري".

يضيف المزواري بخصوص علاقة الناقد بالعامل في صناعة السينما أنّ "المسألة أخلاقية أولاً، يعيشها كلّ ناقد على طريقته، شرط ألّا تحول علاقتُه بالطرف الآخر دون أن يُعبِّر عن قناعته بكل حرّية وتجرّد ومسؤولية". لكنه يؤكّد أن "هذا لا يعني دخول الناقد في صراع مع المخرج كي يستحقّ صفة التجرّد كما يظنّ البعض، بل أن تُبنى علاقتهما على الاحترام والصداقة والثقة، التي من دونها لا يمكن أن ينفذ أيّ منهما إلى أفكار الآخر، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالحوارات الرصينة التي من دونها لا يمكن أن تكتمل أركان النفاذ إلى كلّ أبعاد العمل السينمائي وعناصره". ويُعطي مثلاً على هذا النوع من "الصداقات المتينة" تلك القائمة بين فرنسوا تروفو (1932 ـ 1984) وألفرد هيتشكوك (1899 ـ 1980).

ويختم المزواري بالقول إنه لا يمكن التحدّث عن مشروع نقدي في المغرب: "كلّ ما هناك محاولات فردية متفاوتة المستوى". ويستشهد بقولٍ للناقد محمد بكريم: "وسيلة الإعلام هي من يخلق الناقد"، مُعتبرًا (المزواري) أنه يصعب اليوم العثور في المغرب على وسيلة إعلام واحدة ـ مكتوبة أو مرئية أو مسموعة ـ "يعي القائمون عليها أهمية النقد السينمائي". لذا، "لا يمكن أن ننتظر منها وضع مشروع ذي مضمون نقدي رصين، أو حتى حيّز أو برنامج يتطرّق إلى السينما من منظور "سينفيلي" عميق، بدلاً من التغطيات السطحية والمُشوَّهة، أو تلك الباحثة عن الإثارة السهلة المبثوثة هنا وهناك".



سليمان الحقيوي: النقد السينمائي غير مُرحّب به
من جهته، ينحو سليمان الحقيوي منحى عبد الكريم واكريم، بقوله إنّ من يتحدث عن النقد السينمائي في المغرب يُقسمه إلى 3 أقسام، هي الصحافي والأكاديمي والشفهي: "تقسيم لا يستوعب الكتابة النقدية ولا تحوّلاتها، ولا يُقدِّم بسبب ذلك إجابات عن النقد وماهيته واختصاصاته". يقول: "اليوم، أو في أي زمن ماضٍ أو حاضر، لن نحصل على إجابات مريحة عن مقوّمات الكتابة النقدية، فهناك دائمًا شعور بعدم الرضى، وهذا في نظري ما يدفع الكتّاب إلى الاستمرار والتجديد".

لكن، إذا كان يلزم التحدّث عن تجربة النقد السينمائي في المغرب، "يُمكن القول إن هناك نقّادًا يكتبون باستمرار. وقراءة كتاباتهم تجعلنا نلاحظ التطوّر الكبير في مختلف تصوّرات الكتابة، إنْ تكن الكتابة تحليلًا أو تنظيرًا أو تأريخًا". يضيف أن "سوء حظ النقد أنه يواجه دائمًا معارك للتعبير عن نفسه ضمن باقي الأجناس الأخرى". أما بشأن تسمية الصحافي، "فعلينا أن نتفحّص هذه التسمية بشكل جيد، إذْ تُعدّ الكتابات كلّها المنشورة في صحف ومجلات "نقدًا صحافيًا"، ينظر البعض إليها كقيمة أقلّ من الدراسة المنشورة في مجلة أو كتاب". ويرى الحقيوي أنّ النقد السينمائيّ "غير مُرحَّب به، ولا يُستَقْبل عادة بالاستحسان، بل بخفوتٍ لا يُقارن بالتصفيق الذي يُستقبل به الإبداع"، مُشيرًا ـ في الوقت نفسه ـ إلى إمكان النظر إلى علاقة المخرج بالناقد "كمقياسٍ حقيقي لتقييم حالة السينما في كلّ بلد"، وذلك انطلاقًا من كيفية قبول المخرج لما يُكتب عن فيلمه: هل يؤثّر هذا على العلاقة الإنسانية القائمة بين الطرفين خارج مجال الكتابة والإبداع؟ يقول الحقيوي: "إذا لم تُقدَّر الحرية، فهذا يؤثّر سلبًا على الممارسة النقدية. في حالتنا، يبدو أن النقّاد والمخرجين ليسوا على وفاقٍ دائم، فالتعامل (الإيجابيّ) مع الرأي المُخالف مفقودٌ أحيانًا كثيرة، وهو يتحوّل غالبًا إلى عداوات وخصومات".

إلى ذلك، يقول سليمان الحقيوي "إنّ هناك تصوّرًا مسبقًا للكيفية التي يجب على المشروع النقدي أن يكون عليها، عند التحدّث عن مشروع كهذا، كأن "ينخرط" الكاتب مثلًا في سلسلة كتب نظرية عن السينما، ثمّ يُطبّق المبادئ التي يُنظّر لها بخصوص أفلام أو تجارب أو تيارات سينمائية". يُضيف "أنّ المشروع النقدي بتصوّر كهذا موجودٌ لدى نقّاد مغاربة كثيرين، وهو ـ في الوقت نفسه ـ غائب عند بعضهم، لكن غيابه ليس مسؤولية الكاتب لوحده، بل مسؤولية وسائل النشر التي تنشر ما تراه مناسبًا لخطها التحريري، وهذا من دون تناسي صعوبة تداول الكتاب السينمائي ودعمه".

وينتهي إلى القول إنه لا يُمكن الاشتراط على أي مشروع "أن يركّز على الثقافة والفكر والعلوم الإنسانية بالضرورة، إلا إذا خدمت الروافد هذه لغة السينما، لا أن تصبح هذه التصوّرات فلكًا يدور حوله النقد، إذْ احتفلت كتابات كثيرة بنقد السينما خارج حدود اشتغالها، اعتمادًا على الأدب والفلسفة، مع تغليب المقاربة على التحليل، وهو ما أوقع النقد في مأزق الهوية والعثور على لغته والاستعارة الدائمة من حقول معرفية أخرى".

المساهمون