عن تراجع الدولار في مصر

عن تراجع الدولار في مصر

20 يناير 2020
تراجع الدولار في مصر تحول إلى لغز (فرانس برس)
+ الخط -

تحول تراجع سعر الدولار وتحسن قيمة الجنيه في مصر إلى لغز يستعصي على فهم الكثيرين، بل وبات التراجع يمثل لغزاً حتى لبعض المتخصصين والعاملين في الحقل الاقتصادي والمالي.

ذلك لأن موارد البلاد الأجنبية لم تشهد قفزات تبرر التحسن المتواصل للجنيه المصري، كما أن الحكومة تواصل الاقتراض الخارجي دون توقف، ولا تضع خطة محددة لوقف هذا النزيف المستمر، فقد زادت القروض المحلية والخارجية، بنسبة 16% و18% خلال العام المالي الأخير.

وهناك فجوة تمويلية لا تزال تعاني منها البلاد وتعالجها بالاستدانة، والعجز في الميزان التجاري لا يزال مستمرا، بل وقفز بنسبة 36% في العام المالي الأخير المنتهي بنهاية يونيو الماضي.

إضافة إلى مؤشر أهم وهو أن البنوك لا تبيع الدولار لأي عميل طالما لم يبرر لها سبب حاجته للعملة الأميركية سواء لأغراض السياحة أو العمرة أو الحج أو العلاج أو التعليم في الخارج.

والأهم من كل ما سبق هو أن تراجع سعر الدولار وتحسن قيمة الجنيه المصري لم يصاحبها تراجعا في أسعار السلع المستوردة على الرغم كذلك من تراجع معدل التضخم بشكل كبير.

ومن هنا يقفز البعض إلى نتيجة مفادها أن ما يحدث في سوق الصرف هو تحسن "مصطنع" للجنيه المصري ليس هناك ما يدعمه على الأرض، وهذا التحسن قد لا يصمد كثيراً إذا لم تشهد الإيرادات الدولارية قفزة تفوق احتياجات البلاد من النقد الأجنبي لتغطية كلفة الواردات وسداد أعباء الديون الخارجية من أقساط وسعر فائدة، وأن الجنيه قد يشهد "تعويما" جديدا في السنوات المقبلة.

ورغم ذلك لا أعتبر أن هبوط سعر الدولار المتواصل في مصر يمثل لغزا بالنسبة لي شخصيا على الأقل، وأنه من غير المستبعد استمرار هبوط قيمة العملة الأميركية مقابل الجنيه في الفترة المقبلة، أو لنقل على المدى القصير، أي أن الوضع الحالي قد يستمر بعض الوقت، وقد يتواصل في حال تحسن ايرادات البلاد من النقد الأجنبي خاصة من قطاعات رئيسية كالصادرات وتحويلات العاملين في الخارج والسياحة.

أسباب التراجع

تعالوا نرصد أسباب هذا التراجع المثير لسعر صرف الدولار مقابل الجنيه، ومدى استمرارية الوضع الحالي.

1

أبرز أسباب تراجع الدولار مقابل الجنيه المصري كثافة الاقتراض الخارجي خلال السنوات الأخيرة ليتضاعف رقم الدين الخارجي الذي تجاوز 109 مليار دولار حسب الأرقام الأخيرة الصادرة عن البنك المركزي المصري.

وحسب ما هو معلن، فإن الحكومة ستقترض خلال العام المالي الجاري نحو 7 مليارات دولار، كما ستبرم اتفاقا جديدا مع صندوق النقد الدولي قد تحصل بموجبه على شريحة جديدة من القروض مقابل الالتزام بتنفيذ برنامج جديد للاصلاح الاقتصادي ربما يتضمن اجراءات قاسية مثل الغاء دعم رغيف الخبز والعلاج والتعليم.

2

تجديد بعض القروض الخارجية المستحقة على مصر، ومد البنك المركزي أجل سداد بعض الديون الخارجية المستحقة لدول الخليج وغيرها. هذا يعني ببساطة تأجيل السداد بالاتفاق مع المقرضين، أو لنقل مد فترات القروض بحيث تتحول من قصيرة الأجل إلى متوسطة ومتوسطة إلى طويلة الأجل.

مثلاً تم تأجيل سداد ديون مستحقة للسعودية بقيمة 5.254 مليارات دولار، وتأجيل سداد أكثر من هذا الرقم للإمارات والكويت، هذا يعني تأجيل سداد قروض خارجية تفوق 10 مليارات دولار في العام 2019، وهذا التأجيل خفف الضغط على احتياطي النقد الأجنبي، خاصة إذا ما أخذنا في الأعتبار تجديد الدين المستحق أيضا للبنك المركزي الصيني والبالغ نحو 2.7 مليار دولار.

3

من بين أسباب تحسن سعر الجنيه كذلك، تدخل البنك المركزي بشكل غير مباشر في سوق الصرف عبر التنسيق مع البنوك الفاعلة في السوق وفي مقدمتها البنوك الحكومية مثل الأهلي المصري ومصر لخفض سعر الدولار بشكل متواصل.
ولنكن دقيقين فإن مصادر من داخل القطاع المصرفي تتحدث عن أن البنك المركزي هو من يحدد سعر الدولار اليومي ويتدخل إدارياً في السوق رغم قرار تعويمه الجنيه المصري في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وبالتالي لا يترك البنك السعر هنا للعرض والطلب كما تم الاعلان من قبل، بل يتدخل لدعم الجنيه كما كان يحدث قبل التعويم.

4

يدعم هذا التدخل من قبل البنك المركزي لدعم الجنيه استمرار زيادة احتياطي النقد الأجنبي سواء عبر القروض الخارجية أو عبر الموارد الذاتية من السياحة والصادرات وغيرها، حيث تجاوز رقم الاحتياطي 45 مليار دولار، وهو رقم مريح بالنسبة للعملة المصرية.

5

استمرار تدفق الأموال الساخنة على الأسواق، وهو ما يوفر سيولة نقدية للبنوك المصرية تساعدها في تغطية احتياجات عملائها وتنفيذ تعليمات البنك المركزي.

وحسب أرقام البنك المركزي فقد ارتفعت استثمارات الأجانب في أذون الخزانة بقيمة 463 مليون دولار لتصل إلى 15.467 مليار دولار بنهاية نوفمبر الماضي مقابل 15.004 مليار دولار بنهاية شهر أكتوبر، وهذا الرقم ارتفع إلى 22 مليار دولار حسب تصريحات وزير المالية محمد معيط اليوم الاثنين.

6

من بين أسباب تراجع سعر الدولار الجوهرية أيضا حالة الكساد والركود التي تمر بها الأسواق منذ شهور، وما تبعها من تراجع حجم الواردات من قبل التجار بسبب زيادة الأسعار وضعف القوى الشرائية للمستهلك، وهو ما يخفف الضغط على النقد الأجنبي من قبل المستوردين، تتساوى في ذلك واردات السيارات والأغذية والملابس وغيرها.



لا أحد ينكر أن زيادة إيرادات البلاد من النقد الأجنبي من قطاع السياحة لعب دورا مهما في تحسن قيمة الجنيه مقابل الدولار، فحسب الأرقام الرسمية قفزت إيرادات السياحة أكثر من 28% في السنة المالية الأخيرة 2018/ 2019 لتسجل نحو 12.6 مليار دولار مقابل 9.8 مليارات دولار خلال السنة 2017 – 2018.

8

لكن يقابل ذلك التحسن في قطاع السياحة حدوث تراجع في إيرادات بندين مهمين من إيرادات النقد الأجنبي الرئيسية، الأول هو تحويلات المصريين العاملين بالخارج التي سجلت نحو 25.15 مليار دولار في العام المالي 2019/2018، مقابل نحو 26.392 مليار دولار بنهاية العام 2018/2017، بتراجع 1.2 مليار دولار، وفقًا لتقرير ميزان المدفوعات.
والثاني حدوث تراجع حاد في رقم الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة على مصر، وحسب الأرقام الرسمية أيضا فقد أظهرت بيانات البنك المركزي، استمرار تراجع صافي هذه الاستثمارات للعام الثاني على التوالي، خلال العام المالي الماضي، مسجلا أدنى مستوى له في آخر 5 سنوات.

وبحسب البيانات الرسمية، سجل صافي الاستثمار الأجنبي المباشر خلال العام المالي الماضي نحو 5.9 مليارات دولار مقابل نحو 7.7 مليارات دولار خلال عام 2018/2017، بنسبة تراجع 23.5%.

هذه محاولة لتفسير تراجع الدولار منذ يناير 2019، ولا أحد ينكر هذا العامل النفسي وحالة الذعر التي انتابت حائزي الدولار والتي خلقتها حالة الصمت من قبل البنك المركزي، وهذا شئ محمود ومطلوب، كما دعمتها توقعات وسائل الاعلام باستمرار هذا التراجع.

لكن تبقى هنا كلمة وهي أنه في الدول التي تعوم عملاتها الوطنية وتطبق سياسة تحرير أسعار الصرف لديها لا تسير العملات في اتجاه واحد كما يحدث حالياً في مصر، فالأسعار تتحرك تراجعا وارتفاعاً لعدة اعتبارات، وهذا ينطبق على العملات الرئيسية مثل الدولار والجنيه الاسترليني واليورو التي تتحرك تبعا لأوضاع الاقتصاد ومؤشراته والقرارات السياسية والمخاطر.

وبالتالي فإن العملة عندما تتحرك في اتجاه واحد، هنا تثير علامات استفهام عدة، وتؤكد مقولة أن التراجع المتواصل للدولار في مصر "مصطنع" ولا يعبر عن قوى السوق والعرض والطلب وحال الاقتصاد.

المساهمون