صحة الأرقام الاقتصادية

صحة الأرقام الاقتصادية

13 نوفمبر 2019
شكوك حول دقة البيانات الاقتصادية في مصر (Getty)
+ الخط -


يجب أن تُبنى السياسات الصحيحة على معلوماتٍ دقيقةٍ وصحيحة أولاً، وعلى الفهم النظري للعلاقات بين المؤشرات الاقتصادية، للوصول إلى حلول تهاجم المشكلة في صميمها. ولو نظرنا إلى المعلومات والسلاسل الإحصائية في الوطن العربي، لرأينا أن كثيراً منها ليس دقيقاً.

ومن العجب أن هذه الإحصاءات تتعلق بأبرز الحقائق التي لا نستطيع بدونها الحصول على أي استنتاجٍ ذي قيمة، فمن منا يعرف تماماً عدد السكان في العراق، أو سورية، أو اليمن، أو الصومال، وليبيا، والسودان، أو حتى في بعض الدول العربية الأكثر استقراراً؟

ومن منا يعرف بدقة حجم الناتج المحلي الإجمالي لمعظم الدول العربية؟ فهذه المؤشرات تعتمد على تقديرات للمداخيل في بعض القطاعات، مثل الزراعة أو السياحة، أو حتى النقل. وبعضها لا يعرف الإنفاق الذي يقوم به المواطنون خارج دولتهم.

وإذا لم نثق في دقة الأرقام للناتج المحلي الإجمالي، بسبب أن جزءاً كبيراً من النشاط الاقتصادي غير رسمي، وغير مرصود من الحكومات، وإذا كنا لا نعرف بدقة عدد السكان الفاعلين اقتصادياً، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين، فكيف نعرف معدل دخل الفرد في هذه الدول، وهو مؤشر أساسي على مستوى الرفاه الذي يتمتع به المواطنون؟

ولعل من التحديات الصعبة التي تواجه معظم الدول العربية هو مؤشر توزيع الدخل، أو معامل جيني (Gini Coefficient)، والذي يبيّن لنا مدى عدالة التوزيع، أو مدى بعده عن تلك العدالة. ومؤشر يقيس نجاعة السياسات الهادفة إلى دعم موازنات الأسر، وتوفير الحياة الكريمة لأفرادها، وفاعلية السياسات الضريبية في إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل أفضل.

ومن المفروض أيضاً أن تكون إحصاءات المالية العامة والأرقام الداخلة في الموازنة العامة دقيقة. ولكننا نلاحظ أن معظم التقديرات في الموازنات العامة للدول العربية لا تتوازى مع أرقام الإيرادات الفعلية.

وكذلك، نرى أن الحكومات تقترض بأسلوب "تلبيس الطواقي " (window dressing)، أي أنها تقترض من الجهاز المصرفي طوال الشهر، ثم تكتب شيكاً للبنك المركزي بسداد القرض، ليعاد فتح حساب الاقتراض في بداية الشهر الذي يليه. وهنالك سُلفٌ تؤخذ من الجهاز المصرفي ولا تسدد، ولكنها لا تُحسب ضمن النفقات العامة، أو المديونية العامة.

وأما الأمر الأدهى فيتعلق بغياب المعلومات التفصيلية، خصوصا في قطاعي التجارة والخدمات الخارجية، فالبيانات الجمركية تحتوي على مغالطاتٍ كثيرة، بقصد التهرّب من الرسم الجمركي، أو من ضريبة المبيعات المفروضة على السلع المستوردة.

ومما يسبب الإرباك الأكثر في دقة الأرقام هو طبخ بعض الحكومات الأرقام من أجل إظهار نفسها بصورة أحسن، أو للتمويه على المقرضين، أو للتهرّب من التزاماتٍ خارجية عليها.

فالبطالة، على سبيل المثال، لا تُحسب، بل تقوم في بعض الدول العربية على أساس المسوحات الميدانية لعينات مختارة، يُسأل فيها الناس عن المدة التي اشتغلوها في آخر ثلاثة أشهر، وإذا تغير السؤال إلى الاستفسار عن المدة التي اشتغلوها خلال آخر ستة أشهر، فإن نسب البطالة المُقاسة عن طريق العينة سوف تصغر وتتضاءل.
لا بد للدول العربية أن تعرف الحقائق، ويجب أن تطّلع على عدد السكان، وعلى مكوّناتهم الإثنية والعرقية والطائفية، بقصد فهم الناس والتعامل السياسي معهم بعدالةٍ وإنصاف.

وفي أحيان كثيرة، لا يُسمح بنشر هذه المعلومات، أو لا يسمح حتى بالاستقصاء عنها، أو إجراء مسح لتقييمها، حتى لا تُخل بمعادلات المحاصصة القائمة، أو تفتح المجال للمهاترات والفتن الداخلية.

ولا بد للدول العربية أن تحيط نفسها علماً بعدد الأجانب الذين يدخلون إليها أو يخرجون منها، لأسبابٍ توظيفيةٍ، وأمنية، واقتصادية. وإذا كانت المعلومات لا تُنشر لأسبابٍ أمنية أو غيرها، فإن جهةً ما ستكون مطلعة عليها، وتزوّدها لجهةٍ مؤتمنةٍ تستخدمها في الدراسات الهادفة إلى رسم السياسات.

وكذلك، يجب أن تكون المعلومات الرئيسية عن معدلات استهلاك الكهرباء، والمياه، والمواد الغذائية الأساسية، والمشتقات النفطية، متاحة بشكل يومي ودقيق. وتدرسها جهاتٌ يهمها الأمن الاجتماعي، والتحوّط من الطوارئ. ولكننا نجد أن دولا عربية كثيرة لا تعرف مثل هذه المعلومات.

المعلومات عن تغير المناخ، واحتمالات الكوارث الطبيعية، ودراسة الطرق، وشبكات الصرف، ومقاومة الأبنية الزلازل والأعاصير، يجب أن تدخل في حساباتنا. وأن نحتفظ بكل المعلومات عن جهوزية الآليات، والأفراد، ونظم الطوارئ، والإسعاف، والمستشفيات والمدارس، من أجل التحوط قبل وقوع الأذى، والتعامل معه بكل الإمكانات المتاحة عند حصوله.

وبدون إحصاءات أو معلومات دقيقة، لا يمكن التخطيط على المدى الطويل، ولا يمكن إجراء تقديراتٍ دقيقةٍ لتطورات الأمور في المستقبل، أو التخطيط الاستراتيجي الذي يعطي الدولة المنعة والاستقلالية والصمود أمام الكوارث والمفاجآت.

قضية المعلومات والإحصاءات ليست رفاهية، ولا مغالاة في التنظير، بل هي جزء من بناء الأمة والحفاظ عليها.