النقد الذاتي والاقتصاد

النقد الذاتي والاقتصاد

18 أكتوبر 2018
الحكومات أولويتها الإنفاق العسكري والأمني (فرانس برس)
+ الخط -

عندما كتب علال الفاسي كتابه الشهير "النقد الذاتي"، ونشره في القاهرة عام 1952، أقبل الناس على الكتاب، والذي أصبح بعد ذلك مكوناً أساسياً لفكر حزب الاستقلال المغربي، كما كان وجهاً مشرقاً في تاريخ النضال السياسي والحكم في المملكة المغربية، خصوصا بعد عودة الملك محمد الخامس من المنفى، واستعادته مقاليد الحكم عام 1955.

ويؤكد كثيرون من فلاسفة المغرب، وحتى الكتاب العرب والأجانب، أن ميزة كتاب "النقد الذاتي" هي اعتماده على الإسلام المعتدل في المقاربة، والذي يسعى إلى تطوير مهارات التفكير والتحليل لدى الشباب. ويستعين في ذلك باقتباسات من القرآن الكريم مثل "قل سيروا في الأرض فانظروا"، ويؤكد على مفرداتٍ قرآنية مثل التبصر والتأمل والتفكّر والتدبر، ويربطها بآلية العقل.

لقد ولد علال الفاسي، كما يدل اسمه، في مدينة فاس، ودرس في جامعة القرويين فيها. وتربى على أيدي أساتذة مشهورين. ولما نفي إلى الخارج، واستقر به المقام في مصر، كتب كتابه الشهير. وقد تأثر بالفكر المنهجي الذي ساد في الأندلس، خصوصا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، حيث كتب مفكرون، أمثال ابن رشد وابن طفيل وابن ميمون.
وتأثر الفاسي بمنهجية هؤلاء العلمية والقائمة على الفلسفة الأفلاطونية الاستنباطية، ومدرسة أرسطو الاستقرائية. وتجد مخطوطات أصلية كثيرة مكتوبة على جلد الغزال محفوظة لدى المكتبة البوعنانية في إحدى مدارس جامع القرويين.

في المقابل، تأثر بفكر بعض الفلاسفة الفرنسيين، خصوصا فولتير. وفي إحدى مدونات "الجزيرة"، تقول الكاتبة مريم رضوان إن علال الفاسي استشهد في كتابه بمقولتين شهيرتين لفولتير. "إذا أردت إنهاض شعب فعلمه كيف يفكر"، و"العقلاء من يوجهون التفكير"، أي أنه يرفض مقولة أن القادة السياسيين هم أصحاب الفكر وهم يوجّهون الناس فيه.

وقد تعرض فكر علال الفاسي إلى نقدٍ كثير بسبب اقترابه من أفكار حركة الإخوان المسلمين، وبعض المفكرين أصحاب النزعة الإسلامية، ولكنه للإنصاف يختلف عنهم في بعض الأمور، فهو ذو تفكير يُتهم بأنه تفكير أرستقراطي، لأنه يعتمد على فكر متطور لم يكن الوطن العربي جاهزاً له تماماً.

وقد أثار هذه الشجون لدي خطاب الملك عبدالله الثاني بن الحسين يوم الأحد الماضي (14/10) عند افتتاحه الدورة الثالثة لمجلس الأمة الثامن عشر في الأردن، وقد استهل خطابه بالقول بعد إعلان الافتتاح وإلقاء التحية "فالأردن مثل غيره من الدول شابت مسيرة البناء والتنمية فيه بعض الأخطاء والتحدّيات التي لا بد أن نتعلم منها لضمان عدم تكرارها ومعالجتها، لنمضي بمسيرتنا إلى الأمام".

وأضاف "وعدم الرضا هذا هو مع الأسف ناتجٌ عن ضعف الثقة بين المواطن والمؤسسات الحكومية، والمناخ العام المشحون بالتشكيك الذي يقود إلى حالةٍ من الإحباط والانسحاب". انتهى الاقتباس.
والأردن، ككل الأقطار العربية، بحاجةٍ في الوقت الحاضر إلى وقفةٍ لمراجعة الذات، وتقييم المسيرة، ووضع النقاط على الحروف. ومن كان من الأنظمة العربية بغير خطأ فليرمني بحجر.

والسؤال الكبير الذي لا بد من طرحه، هو كم هي كلفة الأنظمة العربية على شعوبها؟ وكم كلفة الأخطاء المرتكبة والتي يتحمل عبئها الكامل الشعب العربي؟

من أفدح الأخطاء التي ارتُكِبَت تضييق قاعدة المشاركة، والاكتفاء بحلقاتٍ ضيقة من الخبراء أو الأصدقاء أو الشركاء أو أبناء العشيرة. وحتى لو كان هؤلاء ملائكةً، لتحولوا بعد حين إلى جبهة تعزل المسؤول عن الشعب، وتضعه بين جدران، حتى لا يصل إليه رأي، ولا يستمع من أحد إلا لهؤلاء. وسرعان ما يكتشف المسؤول "السعيد" أن الشعب في واد وهو في وادٍ آخر.

وتضييق حلقة صنع القرار تُشعر الناس مع الوقت بأنهم مهمّشون، وأنه لا قيمة لرأيهم، وأن عذاباتهم اليومية غير محسوسة ولا مأخوذة بالاعتبار.

ومن هنا يبدأ التشكيك في المؤسسات العامة، وفي قدرتها على معالجة قضايا الناس وهمومهم.
وتكثر على الناس المسؤوليات تجاه أسرهم، وأعمالهم، وتجاه الحكومة التي تعاني أكثر وأكثر من العجز، وتحتاج إلى مال أكثر أو أكثر.

لم تعد الحكومات العربية، ولا المسؤولون، قادرين على تحمل كلفة السياسات الريعية، ومبادلة قبول الناس بهم بتلبية حاجاتهم بأقل التكاليف، إذ سرعان ما تكثر الأخطاء المكلفة، والمغامرات الفاشلة، ويبدأ الاسترضاء في التناقص، حتى يبقى محصوراً في الجهات العسكرية والأمنية التي تحمي المسؤول. وإذا اختلفت هذه الجهات، وضاع التآلف بينها، واحتجّت الرعية، لم يجد الحاكم من ينقذه من الشعب الغاضب.

ولذلك، لو طورنا القدرات العقلية، والملكات الإبداعية، والمهارات الاجتماعية، لكي تنمو وتعمل بحرية واستقلالية، فإنها ستقدّم للمجتمع في ظل نظام سياسي وقيادة مستنيرة مشروعات ومبادرات اقتصادية خلاقة كثيرة تجعل الشعب رافداً للخزينة بدون عناء أو ملامة، ما يعزّز مشروعية نظام الحكم وأسسه.
وهذا التحليل في ظل الواقع الاقتصادي العربي المرشح للانهيار إذا بقي على حاله من البعثرة، والمغامرات غير مدروسة، والطموحات في غير مكانها، والحروب التي لا طائل تحتها، يجب أن يدق ناقوس الخطر.

نحن يجب أن نخرج من الحلقة الرهيبة التي أشار إليها الحسن بن الفضل، في رسالته الحريرية التي كتبها إلى سلطان ديبا محل (جزر المالديف) قبل حوالي مائتين وخمسين سنة، ويقول فيها:

فاعلم، رعاك الله، أن السلطان يقوم على أربع. أولها الجيش، وثانيها الخزانة، وثالثها تآلف الجيش، ورابعها العدل بين الناس ودفع الظلم. وكثيراً ما ينسى السلطان البند الرابع، ويكرّس المال للبندين الأولين، لأن الغَرَض سريع، ولا يحتمل التأجيل.

واعلم أنك إن تركت للناس معاشهم، فستجد عندهم ما يعطونك إياه في وقت حاجتك وعسرتك. وإن لم تعدل، فإنك لن تلقى عندهم حاجتك، فتصادر أموالهم وأملاكهم، غير هيّابٍ لأن الجيش يحميك منهم.

واعلم، رعاك الله، أن نقص الأموال وسوء إدارتك لما صادرت سيجعلك تخصّ جزءاً من الجيش على حساب جزءٍ آخر، فيقوم من لم تخصه بالانقلاب عليك. وإذا ما ثارت عليك الرعية ساندوهم، ولم تجد من دون الناس من يحميك منهم.

المساهمون