أميركا... المقترض الأكثر جدارة يفقد عرشه

أميركا... المقترض الأكثر جدارة يفقد عرشه

28 سبتمبر 2017
تحولات في النفوذ الاقتصادي الدولي (Getty)
+ الخط -
في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، كان هناك رئيس أميركي اسمه أندرو جاكسون. هذا الرئيس، ورغم أنه كان " جنرالاً " في الجيش الأميركي، إلا أنه لم يصل إلى الحكم على دبابة أو عن طريق انقلاب أو تفويض. فبالإضافة إلى كونه جنرالاً عسكرياً قاد العديد من المعارك وانتصر فيها وأصبح بطلاً قومياً.

كان جاكسون أيضاً محامياً مرموقاً، وعضواً في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، إلا أن أهم ما ميزه كان انحيازه لرجل الشارع، وسعيه الدائم لمواجهة الارستقراطية الفاسدة في ذلك الوقت رغم ثرائه، ولذلك فقد تم انتخابه رئيساً لفترتين متتاليتين بصورة ديمقراطية تماماً.

خلال الفترة الثانية من حكمه، وتحديداً في شهر يناير/كانون الثاني من عام 1835، جمع الرئيس جاكسون أغلب السياسيين الموجودين في واشنطن في ذلك الوقت، من مختلف التيارات، واحتفلوا جميعاً بالحدث السعيد: "لقد تم سداد كامل الدين العام الأميركي"!

وكانت تلك هي المرة الوحيدة في تاريخ أميركا التي لم تعد الحكومة فيها مديونة لأي جهة أو شخص. مبلغ الدين لم يتجاوز وقتها 75 مليون دولار.

كان جاكسون يتكسب في بعض الأحيان قبل وصوله للرئاسة من شراء وبيع الأراضي، وكان يقترض لشراء الأراضي ثم يسدد قرضه بعد البيع وتحقيق الربح. فلما كانت بعض الصفقات تفشل، أو إذا تحركت الأسعار بصورة لا تحقق له مكسباً، كان يشعر بضغوط الدائنين. وتسببت تجاربه في الاستدانة في كرهه للإقتراض عموماً كفرد، ثم كرهه للدين العام عندما أصبح رئيساً.

ومن عجائب هذا الرئيس أنه سدد الدين العام الأمريكي بالكامل وقتها عن طريق بيع بعض الأراضي التي كانت تملكها الدولة. باع الأراضي ليسدد الدين، ولم يعرف عنه أبداً أنه باع أراضٍ أو تنازل عن جزر من أجل الإقتراض، فلما باع الأراضي مستغلاً فقاعة ضخمة شهدتها أسواق العقارات وقتها، حقق إيراداتٍ كبيرة للدولة، الأمر الذي أوجد فائضاً قام بتوزيعه على الولايات المختلفة.

توالت بعدها الأحداث بصورة غير متوقعة من خلال ركود وحروب واضطرابات سياسية استمرت لعقود طويلة، حتى فوجئنا بالدين العام الأميركي يتجاوز 20 تريليون دولار خلال الأسابيع القليلة الماضية، مما استدعى الحصول على موافقة الكونغرس كون هذا الرقم يتجاوز الحد الأقصى المسموح للحكومة الأميركية باقتراضه. لكن الاقتراض الأميركي كان في كثير من الأحيان إختيارياً!، فالحكومة تقترض بسعر فائدة يتراوح بين 1% -2% في المتوسط في الوقت الحالي، بينما يتسبب ذلك الاقتراض في نمو الاقتصاد بمعدل يزيد عن 4%.

وتقترض الحكومة الأميركية – والحكومات عموماً - لأن نفقاتها في أغلب الأحوال تزيد عن إيراداتها، فتقوم بإصدار سندات وأوراق مالية تطرحها في الأسواق، وتقوم الدول والمؤسسات بشرائها، وبذلك تحصل الولايات المتحدة الأميركية على التمويل الذي تحتاجه، على وعد بدفع دفعات منتظمة لحامل كل ورقة، تمثل العائد الذي يحصل عليه، ثم دفع أصل المبلغ في تاريخ استحقاق يتم الاتفاق عليه. ويمتد عمر تلك الأوراق المالية عادةً لفترات تتراوح بين 4 أسابيع و30 سنة، وقد تكون هناك اصدارات مدتها مائة عامٍ قريباً.

ويعتبر الكثيرون أن الحكومةَ الأميركية هي المقترض الأكثر أمناً في العالم، وبالتالي فإن النسبة العظمى من احتياطيات النقد الأجنبي لدول العالم يتم استخدامها في شراء سندات الخزانة الأميركية.

وفي بداية الأسبوع الماضي، أشارت "ساعة الدَّين" الموجودة في صورة تطبيق برمجي يمكن تنزيله على أجهزة الحاسب الآلي والتليفونات المحمولة، والموجودة أيضاً على جدار احدى البنايات في الشارع السادس في حي مانهاتن بمدينة نيويورك، أشارت إلى تجاوز الدين العام الأميركي مبلغ 20 تريليون دولار، وأنه يزيد بمعدل 10 آلاف دولار كل ثانية تقريباً.

وشكلت مساهمة الأجانب بنهاية يوليو 2017 ما يقرب من 30% من اجمالي تمويل الدين العام الأمريكي، وهو ما يعني خروج ما يزيد عن 100 مليار دولار كل عام في صورة فائدة مدفوعة للمقرضين من خارج الولايات المتحدة الأميركية عند مستويات الفائدة الحالية، والتي تعد من أقلها على مر العصور. وتستحوذ الصين واليابان وحدهما على أكثر من 11% من اجمالي سندات الخزانة الأميركية، ويمكن هنا القول أن الصين واليابان تقرضان أميركا حتى يتمكن المواطن الأميركي من شراء المنتجات الصينية واليابانية، وكلتاهما تحتفظ بفائض ضخم في الميزان التجاري مع الولايات المتحدة.

وكانت هناك عوامل رئيسية أدت للوصول إلى هذه النقطة، بدأت – على خلاف ما يعتقد البعض - قبل الأزمة المالية بسنوات. فبعد أحداث 11 سبتمبر، وتوجه أميركا للحرب على الإرهاب، تضاعف الإنفاق العسكري السنوي بين عامي 2003 و2011، وبزيادة أكثر من 400 مليار دولار.

ثم كانت بعد ذلك الزيادات الهائلة في نفقات الضمان الإجتماعي والتأمين الصحي وما شابه ذلك منذ عام 2011، حتى أصبح هذا البند وحده يلتهم أكثر من نصف إيرادات الدولة، بما يزيد عن 2 تريليون دولار كل عام! ويوضح لنا ذلك سبب تمسك ترامب الشديد بتعديل نظام التأمين الصحي، وهو ما يحتاج لقانون جديد قبل إجراء أي تخفيض في نفقاته، الأمر الذي قد يكلف الجمهوريين أغلبيتهم في الكونغرس.

بعد ذلك كان دور حزم التحفيز الاقتصادي اعتباراً من عام 2009، والتي كانت ضرورية من أجل الخروج من الأزمة المالية العالمية، وقدرت بما يقرب من 800 مليار دولار، وبالفعل أدت دورها في المساعدة في الخروج من الأزمة.

وكان آخر الأسباب هو انخفاض حصيلة الضرائب مع تباطؤ النشاط الاقتصادي في الفترة من 2007 -2012، وهو ما أدى إلى فقدان ما يقرب من 500 مليار دولار سنوياً من موارد الدولة، ولم يتم استردادها إلا في عام 2013.

ورغم العوامل السابقة التي أدت إلى تزايد المديونية بتلك الصورة المهولة، لم تعمل الحكومة الأميركية على تخفيض عجز الموازنة لديها بالقدر الكافي حتى الآن. وذلك لأن الحكومات المتعاقبة كانت تدرك جيداً أن زيادة الإنفاق الحكومي تنعش الإقتصاد وتزيد الناتج المحلي وتخلق الوظائف، وهو المطلوب لإعادة انتخابهم.

كما أن هناك دائماً من هو مستعد لإقراض الحكومة الأميركية، كالصين واليابان وغيرها من الدول التي تحتفظ باحتياطيات ضخمة من الدولارات. ومن ناحيةٍ أخرى، فقد أدرك الجميع أن أقصر الطرق لخسارة الانتخابات كانت مرتبطة دائماً بزيادة الضرائب، وارتفاع معدلات البطالة.

لكن جرت العادة ألا يتم النظر إلى ديون الدول كقيم مطلقة، وإنما كنسبة من حجم الاقتصاد، وبناءاً عليه يهتم المحللون بنسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي أكثر من اهتمامهم برقم المديونية نفسه.

وفي علم 2017 وصلت هذه النسبة في أميركا إلى 106% تقريباً، وهو ما أثار حفيظة كثيرٍ من الاقتصاديين، حيث جرى العرف ألا تزيد تلك النسبة عن 60% في البلدان المتقدمة، بينما يُنصح بإبقائها تحت ال40% في البلدان النامية والناشئة.

ولم يكن ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، رغم أنها كانت الأعلى خلال السبعين عاماً الأخيرة، هو مصدر القلق الوحيد، وإنما كانت توجهات بنك الإحتياط الفيدرالي الواضحة نحو رفع الفائدة تدريجياً خلال السنوات الثلاث القادمة مؤشراً واضحاً على تأكد مضاعفة تكلفة الإقتراض الحالية، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى زيادة عجز الموازنة، الذي لا يتوقع أكثر المحللين تفاؤلاً تحوله إلى فائض قبل عام 2027.

ولو فشلت جهود الرئيس ترامب في تغيير نظام التأمين الصحي القائم لتخفيض نفقات الحكومة، مع تزايد التوترات الجيوسياسية التي قد تدفع بالولايات المتحدة إلى بعض المغامرات هنا أو هناك، وما يصاحب ذلك من زيادات في الإنفاق الحكومي، فإن الأمور تكون مرشحة بقوة للتفاقم، وقد تفقد أميركا لقب المقترض الأكثر أمناً في العالم، وهو ما حذرت منه وكالة موديز للتصنيف الائتماني، عندما أشارت قبل أيام إلى احتمالية تخفيض التصنيف الائتماني لأميركا.

لا أحد يتوقع بالطبع اضطرار الولايات المتحدة لسداد ما عليها من ديون بصورة كاملة في أي وقت قريب، لكن تغير الجدارة الائتمانية للمقترض المُفَضَّل في العالم ربما ينذر بتحولات كبيرة في النفوذ الاقتصادي للدول، خاصة مع ما نلاحظه من تخفيض كبير في محفظة سندات الخزانة الأميركية لدى الصين خلال الأعوام القليلة الماضية، مع توجه بعض الدول لإيجاد عملة أخرى بخلاف الدولار لتكون عملة احتياطي نقدي جديدة.