أمَازون ومقرُها الجَديد والحكومات غير العادلة

أمَازون ومقرُها الجَديد ... والحكومات العربية غير العادلة

25 أكتوبر 2017
أمازون تبحث عن مقر جديد لإدارة أعمالها (Getty)
+ الخط -
في السابع من سبتمبر/أيلول الماضي، أعلنت شركة تجارة التجزئة الأميركية أمازون، رغبتها في اتخاذ مقر رئيسي ثانٍ لعملياتها، بخلاف المقر الرئيسي الأول الموجود في 33 مبنى من مباني مدينة سياتل بولاية واشنطن الأميركية، والذي يشغله أكثر من 40 ألفاً من موظفيها البالغ عددهم أكثر من 340 ألفاً. 

وطلبت الشركة من المدن أو الولايات الراغبة في استضافة المقر الجديد تقديم طلباتها، بعد أن وضعت قائمة توضح فيها أهم الخصائص المطلوب توافرها في المدينة التي سيقع عليها الاختيار.

وجمعت تلك الخصائص بين ما يخص البنية التحتية والثقافة والاستعداد الذهني والتركيبة السكانية للمدينة المختارة، فأكدت الشركة ضرورة وجود شبكة طرق على درجة عالية من الكفاءة، ومطار دولي، مع توفر وسائل النقل الجماعي. كما أكدت الشركة أهمية أن تتميز المدينة المختارة بتركيبة سكانية متنوعة، وألا يقل عدد سكانها عن مليون شخص، مع ضرورة توفير بيئة مستقرة وميسرة للأعمال، وأن تكون المدينة قادرة على اجتذاب المواهب التقنية والعمالة المتميزة، وتوفير المناخ اللازم لبقائهم فيها، وأيضاً أن تتميز المجتمعات في المدينة المختارة بالتفكير الخلاق.

وفي مقابل هذه الشروط، أعلنت الشركة اعتزامها استثمار خمسة مليارات من الدولارات في مقرها الجديد، كما أعلنت نيتها توفير 50 ألف وظيفة في الولاية التي سيتم اختيار إحدى مدنها لإقامة المقر الجديد فيها، وأكدت أن طبيعة عملياتها ستسمح بخلق المزيد من الوظائف الأخرى غير المباشرة في كافة قطاعات الأعمال المساندة.

وفور إعلان الشركة، ورغم الشروط الصعبة، فقد تقدمت أكثر من 100 مدينة في عدة ولايات أميركية بعروضها، وكانت جميعُها مستوفيةً للشروط. وأبقت أغلب المدن عروضَها سريةً من أجل التميز.

ولم تفصح ولاية ماريلاند عن كامل تفاصيل العرض الذي تقدمت به، لكنها أعلنت عن وعدها للشركة بتقديم حزمة تحفيزية لم يسبق تقديمها لأي شركة أخرى، تتكون من إعفاءات ضريبية ضخمة قد تصل إلى عشرة مليارات من الدولارات على مدار عشر سنوات، مع وعد للشركة بتعديل بعض التشريعات في الولاية، لتمكين الشركة من الحصول على إعفاءات إضافية. وأعلنت الولاية عن تحملها تكلفة تطوير وسائل المواصلات في كافة المناطق التي سيقع عليها اختيار الشركة لو أقامت مقرها الجديد في الولاية.

ولم تكن كل تلك الوعود بجديدة على ولاية مريلاند، فقد منحت الولاية شركة ماريوت صاحبة الفنادق الشهيرة خلال العامين الماضيين إعفاءات ضريبية ومزايا أخرى قدرت بحوالي 62 مليون دولار، لإقناعها بعدم نقل مقرها الرئيسي من الولاية وعدم الاستغناء عن أيٍ من موظفيها العشرة آلاف.

كما حصلت شركة نورثروب جرومان على حزمة مزايا خلال نفس الفترة تقدر بحوالي 57 مليون دولار للاحتفاظ بعشرة آلاف وظيفة تخص سكان الولاية. وكذلك فعلت وتفعل مع شركات أخرى، حتى وصل عدد الشركات المستفيدة من تلك الحوافز والإعفاءات الضريبية خلال عام 2016 وحده إلى 584 شركة، وبقيمة إجمالية تزيد عن 100 مليون دولار. كما عرضت ولايات أخرى على أمازون حوافز وإعفاءات مماثلة، وصل بعضها إلى ما قيمته سبعة مليارات دولار لنفس الغرض.
الحكومات العاقلة تعمل لصالح مواطنيها، فتستثمر من أجلهم، وتعمل على جذب المشروعات التي تُزيد الانتاج وتخلُق الوظائف، وتبني المدارس والمستشفيات، وتنشئ الطرق وتوفر المواصلات، بل وتزين الحدائق وتوزع الإعانات على العاطلين، وكل ذلك مقابل ما تحصله من ضرائب.

أما الحكومات غير العاقلة، فتعادي مواطنيها ولا تعاملهم بالعدل، ولا تهتم حتى بتبرير مواقفها غير العادلة، فتنشأ العداوة بين الحكومة والمواطنين، وينتظر المواطن الفرصة من أجل معاقبة حكومته والانتقام منها.

المواطن في بلادنا العربية لا يطمع في الكثير، وإنما يطلب العدل. يطلب، وهو يستحق، أن يشعر بالعدل. والعدل يعني أن يحصل كل مواطن على أجر يكفل له حياة كريمة، ويتناسب مع ما يقوم به من عمل.

العدل يقتضي أن يستطيع المواطن تعليم وعلاج من يعول، وأن يشعر أنه يقف على قدم المساواة في الحقوق والواجبات مع كل أبناء وطنه. والمواطن الذي يشعر أن حكومته غير عادلة، أو أنها لا تقوم بدورها تجاه مواطنيها سيعمل على معاقبتها، فيسيء استخدام المرافق العامة ويدمرها، ويتهرب من الضرائب، ويدفع ويقبل الرشوة، وينتظر أقرب فرصة للهروب من بلده، حتى لو كانت على مركب موت أو بأي صورة أخرى غير شرعية.

الشعب الذي يرى حكومته غير عادلة يعاقبها، فيتحرش رجاله بنسائه، ويزداد العنف بين أفراده، ويتآمر أبناؤه على إخوانهم، ويتعاونون مع أعدائه، وتتفشى فيه كافة مظاهر السلوك غير السوي.

يفعل المواطن كل ذلك وهو لا يدري أنه يعاقب حكومته، وتضطر الحكومات حينئذٍ لاتخاذ مواقف متشددة تجاه من يفعل ذلك، وربما تستخدم معهم العنف، فندخل في دوائر مفرغة من العنف والعنف المضاد التي لا تنتهي إلا بانهيار الدول وفشلها.

الحكومات المحلية في الولايات المختلفة تنافست وتعهدت بإنفاق مليارات الدولارات من أجل الفوز بمقر شركة أمازون الجديد، لأنها تستشعر مسؤوليتها نحو مواطنيها. فخلق فرص العمل من واجبات الدولة، وتحسين مستويات المعيشة من واجبات الدولة، والحفاظ على كرامة المواطن من واجبات الدولة، ولا يمكن قبول الأعذار من نوعية ضعف الإمكانيات أو كثرة الحروب، ونحن نشاهد تجارب الدول من حولنا، ولنا في الهند والصين وكوريا الجنوبية والبرازيل العظة.

لكن إدارة الشركة لم تنخدع بمليارات الدولارات المعروضة، وأكدت أن الإعفاءات الضريبية لن يكون لها دور رئيسي في اختيار المدينة، وأوضحت أنه بخلاف الاشتراطات السابقة، فإنه يتعين على المدينة المختارة أن توجد المدارس المتميزة من أجل توفير التعليم المناسب لأبناء العاملين في المركز الرئيسي الجديد.

وقتها فقط، أدركت أن أمازون لن تفتح مقراً رئيسياً جديداً في بلادنا العربية أبداً.

المساهمون