مصر وروسيا: نووي مُكلف في زمن القمح العصيب

مصر وروسيا: نووي مُكلف في زمن القمح العصيب

03 اغسطس 2022
مصر توسعت في إنشاء محطات الكهرباء خلال السنوات الأخيرة (فرانس برس)
+ الخط -

بعد خمس سنوات من تأخر تنفيذ المشروع النووي بين القاهرة وموسكو، شهدت مصر، قبل نحو أسبوع، إطلاق شارة البدء لإنشاء أول مفاعل نووي في منطقة الضبعة على البحر المتوسط في محافظة مطروح شمال غرب البلاد، ما أثار العديد من التساؤلات حول توقيت "الخطوة التاريخية" وفق وصف المسؤولين في البلدين.

يأتي البدء في بناء محطة الطاقة النووية بغرض إنتاج الطاقة في ظروف صعبة تمر بها مصر وروسيا، إذ تواجه القاهرة أزمة اقتصادية وصفتها تقارير دولية بـ"الحرجة" نتيجة تفاقم الديون الخارجية ونقص الموارد بالعملة الأجنبية، بينما تتعرض موسكو لعقوبات غربية واسعة بسبب حربها في أوكرانيا.

ورغم أهمية المشروع لمصر، والذي ظل حلماً لنحو 50 عاماً، إلا أن برلمانيين وخبراء اقتصاد أبدوا مخاوفهم من تحميل البلاد المزيد من الديون في وقت عصيب وأن المشروع غير مجد اقتصادياً حالياً وتكاليفه أعلى كثيراً من نظيره في تركيا والإمارات، بينما تمكنت مصر من خلال إقامة العديد من مشاريع الكهرباء خلال السنوات الست الأخيرة من تحقيق فائض في الإنتاج تبحث عن تصديره.

ضمان تدفق القمح

لكن هناك من يرى أن توازنات أخرى تلعب دوراً رئيسياً في بدء تنفيذ الصفقة بين مصر وروسيا، لتزامنها مع أزمة غذاء عالمية، بينما تسعى مصر لضمان تدفق صفقات القمح الروسي الذي يمثل 60% من حجم الاستهلاك المحلي سنوياً، فضلا عن سلع أخرى استراتيجية، فيما تسعى روسيا في المقابل إلى العودة لمصر بمشروع ضخم، يعد الثاني في حجمه بين البلدين بعد مشروع سد أسوان العالي على نهر النيل (جنوبي البلاد) الذي افتتح رسمياً عام 1971 بعد 11 عاماً من البناء، وشكل نقلة نوعية في التنمية بالبلاد خاصة في قطاع الزراعة.

يتكون المشروع من 4 مفاعلات (وحدات) نووية من الجيل الثالث بقدرة إجمالية 4800 ميغاواط، وتصل التكلفة إلى 30 مليار دولار يجري تمويل 85% منه عبر قرض روسي بقيمة 25 مليار دولار، على أن تمول مصر نسبة الـ15% المتبقية، وتبدأ مصر في سداد القرض الروسي بفائدة 3%، اعتبارا من أكتوبر/تشرين الأول 2029، وفق الاتفاق الذي جرى توقيعه في 2017.

ولا تنكر الحكومة المصرية وجود أزمة مالية أوصلتها إلى مفاوضات صعبة مع صندوق النقد الدولي تستلزم تنفيذ اشتراطات قاسية من جديد ستطاول تداعياتها معظم المصريين.

وكشفت الاحتفالات المحدودة بالمشروع الضخم، عن أسباب الولادة القيصرية لبناء ظل حلماً على مدار نصف قرن، إذ أشار مصدر برلماني في تصريح خاص، إلى أن الأزمة المالية التي تمر بها مصر، دفعت الحكومة إلى تأجيل رصد أية مخصصات مالية لإقامة المحطة النووية بالضبعة خلال العام المالي الحالي 2022-2023، إذ خصّصت وزارة المالية لهيئة المحطات النووية، المالكة للمشروع، مبلغ 931 مليون جنيه (49.1 مليون دولار)، للإنفاق على رواتب الموظفين والمنشآت الإدارية والفنية التابعة لها، بزيادة 327 مليون جنيه فقط عن العام الماضي.

وكشف المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه، عن توصية من أعضاء في مجلس النواب، نهاية يونيو/حزيران الماضي، بعدم التوسع في مشروعات يمكن تأجيلها، لحين تجاوز الأزمة الحالية، ولضبط الإنفاق المالي، وتحفظهم أثناء اعتماد الموازنة الجديدة، على زيادة الاقتراض من الخارج. واعتبر أن هناك مؤشرات على ضغوط روسية على الحكومة المصرية، لإتمام الصفقة، لحاجتها إلى التواجد في الأسواق الدولية لمواجهة الحظر الأميركي الغربي المفروض على شركات وبنوك حكومية وقيادات بالدولة منذ غزوها أوكرانيا نهاية فبراير/شباط الماضي.

أزمة غذاء عالمية

وقال المصدر إن "الضغوط الروسية، تمثلت في ربط روسيا، بين بدء تنفيذ المشروع النووي فوراً، مقابل ضمان تدفق صفات القمح الروسي الذي يمثل 60% من حجم الاستهلاك المحلي سنوياً، والذي تسعى مصر إلى توفيره، في ظل أزمة غذاء عالمية، وارتفاع في أسعار الأغذية والوقود والشحن، ستستمر حتى نهاية عام 2024، وفقا لتوقعات البنك الدولي، التي أعلنها الشهر الماضي". وتتوقع مؤسسات أممية دوام أجل الأزمة الغذائية لسنوات، على الأقل حتى انتهاء حالة الحرب في أوكرانيا، التي تورد أيضا لمصر 20% من احتياجاتها من القمح.

وشهدت القاهرة، خلال الأسبوعين الماضيين حدثين، يظهران مدى حرص روسيا على المبادلة بين القمح والمشروع النووي، حيث وصل وفد كبير من شركة "روساتوم" الروسية برئاسة أليكسي ليخاتشوف رئيس الشركة النووية الحكومية، ونائبه المالي غريغوري سوسنين، الذي سيتولي إدارة المشروع المصري، لمدة 10 سنوات، عبر "شركة الضبعة لإدارة مشاريع المحطة النووية" التي أسستها روسيا، للتغلب على قرارات الحظر الأميركي.

ظهر المسؤول الروسي في لقاء مع وزير الكهرباء المصري محمد شاكر، صباح 20 يوليو/تموز الماضي، الذي عاد على وجه السرعة من جولة أوروبية مع الرئيس عبدالفتاح السيسي، لالتقاط صورة وضع حجر الأساس للهيكل الخرساني، للجزء الأول من المحطة النووية، بحضور قيادات المحطات والرقابة النووية.

بينت الصور الموزعة على الصحف المحلية، في اليوم التالي، حجم التغطية الضعيف لحدث جلل، بينما انفردت وكالات الأنباء الروسية وموقع شركة "روساتوم" بتفاصيل الحدث، الذي وصفوه، بأنه "عودة جديدة لروسيا في مصر، لإقامة مشروع، ظل حلما للمصريين لعدة سنوات، يعادل في قيمته مشروع السد العالي، الذي أقاموه في ستينيات القرن الماضي".

شرح ليخاتشوف المشروع للإعلام الروسي مبينا، أنه يأتي تنفيذاً لاتفاق بين مصر وروسيا بدأ التفاوض حوله، عام 2015، ودخل حيز التنفيذ في 11 ديسمبر/كانون الأول 2017. يفتخر المسؤول الروسي، بأن المفاعلات ستعمل بتكنولوجيا، الأكثر تقدماً وأماناً في العالم، تشتغل 4 محطات منها بالفعل في روسيا وواحدة في بيلاروسيا.

وسيمد الطرف الروسي المفاعلات بالوقود النووي طوال فترة المشروع التي تستغرق 35 عاماً، وتشغيل المحطات بالماء المضغوط، وصيانها وإدارتها لمدة 10 سنوات، من بدء تشغيل كل مفاعل.

تكاليف مرتفعة

لم يتحدث المسؤول الروسي عن تكلفة المشروع، وكذلك الوزير المصري، بينما أبرزت وكالات أنباء التفاصيل المالية، التي سبق ذكرها على لسان الوزير والمسؤولين الروس عام 2017، عند توقيع الاتفاق بين الجانبين.

لكن تصريحات المسؤول الروسي كانت أكثر لفتا للانتباه عندما تحدث في تصريحات لصحف روسية قبل أيام عن تكلفة إنشاء روسيا مفاعلا نوويا في تركيا من نفس نوعية وحجم وطراز المفاعل النووي المصري بقيمة 20 مليار دولار بتمويل كامل من "روساتوم".

وأكد أن شركة " أوكويو نيوكلير " AKKUYU JSC، التي أسستها روسيا لإدارة المشروع التركي، حولت 5 مليارات دولار، نهاية الشهر الماضي، وأنها تستعد لتحويل باقي المبالغ اللازمة لاستكمال المشروع الشهر الحالي.

بينما يرى عبد النبي عبد المطلب الوكيل السابق في وزارة الاقتصاد المصرية، أن الاختلاف في تسعير المشروع الواحد، بين دولة وأخرى أمر وارد، لأسباب فنية، حيث تدرس هذه المشروعات من خبراء لفترة زمنية طويلة، لكن مصادر برلمانية في مصر أشارت إلى أن "صفقات القمح تبدو حاضرة خلف الكواليس".

وجاءت زيارة وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، عقب ساعات من مغادرة الوفد النووي الروسي لمصر، لتبين كم تحرص روسيا على صفقاتها مع مصر، خلال المرحلة المقبلة، لعلمها بحاجة مصر إلى توفير القمح بكميات مستوردة تزيد عن 13 مليون طن سنويا، بالإضافة إلى الذرة والزيوت، في ظل شح السيولة، وعدم وجود بدائل أرخص تكلفة في السوق الدولية.

التزام روسي بتصدير الحبوب

فقد تجاهل الوزير الروسي في لقائه مع السيسي ووزير الخارجية سامح شكري، التحدث حول المشروع النووي، مفضلا تقديم تطمينات، لمصر بشأن امدادات القمح. قال لافروف: "أكدنا التزام مصدري الحبوب الروس بالوفاء بجميع التزاماتهم مع مصر، التي لا تحتاج من روسيا القمح فقط"، مضيفا: "لدينا تفهم مشترك لأسباب أزمتي الحبوب والغذاء".

وفتحت زيارة الوزير الروسي خزانة الذكريات القريبة، عندما فاجأت مصر روسيا بطلبها تنفيذ المشروع النووي، عام 2015. بدا العرض المصري كأنه تعويض سريع عن انفجار طائرة روسية، سقطت وعلى متنها نحو 230 سائحاً، فوق سيناء شمال شرق مصر عقب انطلاقها بلحظات من مطار شرم الشيخ.

وتلقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين آنذاك الطلب المصري، مع الموافقة على مشاركة الروس في التحقيق وتعويض أسر الضحايا. ووقع بوتين مع السيسي اتفاقاً بتنفيذ المحطة النووية، مع صفقات ضخمة لشراء أسلحة وإقامة منطقة اقتصادية شمال قناة السويس (شرق).

لكن مع المنفعة المتبادلة من إقامة المحطة النووية وتمرير صفقات القمح وغيرها بين البلدين، انتقدت مصادر برلمانية ارتفاع تكاليف المشروع، إذ سعت روسيا إلى الحصول على الصفقة بأسعار مبالغ فيها تفوق مثيله التركي بنحو 10 مليارات دولار، وكذلك ما نفذته شركات كورية في مشروع مماثل في قدراته الإنتاجية للكهرباء في الإمارات بقيمة 16 مليار دولار.

ولفتت المصادر إلى أن مصر توسعت في مشاريع الكهرباء خلال الأعوام الستة الأخيرة، بما حقق فائضاً كبيراً في الإنتاج، وفقا لإحصاءات مرصد الكهرباء بجهاز تنظيم الكهرباء. أفاد تقرير لمجلس الوزراء، في وقت سابق، بأن العجز في الكهرباء تحول إلى فائض يسمح بالتصدير بفضل المشروعات الكبرى، لافتا إلى وصول قيمة الاستثمارات في مجال إنتاج الكهرباء إلى 355 مليار جنيه منذ 2014 حتى نهاية 2021، (كان سعر الدولار حينها يتراوح بين 8 جنيهات و15.6 جنيها).

وأظهر التقرير أنه تمت إضافة نحو 30 ألف ميغاواط قدرات كهربائية بعد الانتهاء من تنفيذ 31 محطة إنتاج طاقة كهربائية ومجمع بنبان للطاقة الشمسية، ليصل فائض الكهرباء يونيو/حزيران 2020 إلى 13 ألف ميغاواط، بعد عجز وصل إلى 6 آلاف ميغاواط في يونيو/ حزيران 2014.

قروض مشروعات الطاقة

وأدى التوسع في مشروعات إنتاج الكهرباء إلى استدانة وزارة الكهرباء نحو 32 مليار دولار، خلال تلك المدة، فتصاعدت أصوات برلمانيين بوقف الاقتراض لمشروعات الطاقة.

بينما يبدى برلمانيون دهشتهم من عدم تمرير الاتفاق النووي النهائي إلى البرلمان. وأكد النائب محمد عبد العليم عضو مجلس النواب، عرض الاتفاق المبدئي فقط على لجنة الصناعة والطاقة، بعد توقيعه عام 2017.

لكن عبد النبي عبد المطلب، يقول إن "بعض الاتفاقات تعرض للمناقشة في لجان مصغرة، أو خاصة داخل البرلمان، دون التزام بنشر بنود الاتفاقية أو مدتها وتكلفتها.. قد يوافق البرلمان، على مشروع الاتفاق، مع عدم نشره، أو إتاحته للإعلام، باعتباره عملاً من أعمال السيادة".

ويرفض عبد المطلب الربط بين استيراد مصر للقمح الروسي، مقابل المشروع النووي، معتبرا أن "من مصلحة مصر أن تستورد القمح من الولايات المتحدة، وغيرها لتستفيد بشكل أفضل من الدعم الغربي".

وأضاف أن روسيا أكثر استفادة فهي تبحث عن تحالفات سياسية أوسع، بضم مصر إلى مجموعة بريكس، التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، في ضوء التطورات الجيوسياسية في أنحاء العالم.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وفي مقابل الانتقادات بشأن توقيت تنفيذ المشروع، أشار بيان لمجلس الوزراء أخيراً، إلى أن مصر تسعى لأن تكون مركزاً محوريا للطاقة عبر مشروعات الربط الكهربائي مع الدول العربية والأفريقية والأوروبية، مستفيدة من موقعها الجغرافي والميزات والمقومات التنافسية التي تتمتع بها، والاحتياطي اليومي بالشبكة القومية للكهرباء، وزيادة الإنتاج من الطاقة المتجددة، فضلا عن اكتشافات الغاز في شرق المتوسط، بما يعزز النمو الاقتصادي ويرسخ علاقات مصر الدولية.

حلم الطاقة النووية

وظل حلم امتلاك طاقة نووية يراود المصريين منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، ولكنه تعرض للكثير من العراقيل لأسباب سياسية وإقليمية وأخرى اقتصادية، فضلا عن سلسلة الحروب التي خاضتها مصر في مواجهة إسرائيل.

ومطلع ثمانينيات القرن الماضي، بحثت مصر بناء محطة للطاقة النووية في منطقة الضبعة، لكن المشروع جمد بعد كارثة تشيرنوبل في أوكرانيا عام 1986.

المساهمون