لا انتعاش دون عدالة توزيع اللقاحات

لا انتعاش دون عدالة توزيع اللقاحات

15 مارس 2021
ازدحام في مطار القاهرة الدولي رغم مخاطر الاصابة بفيروس كوفيد19
+ الخط -

في الوقت الذي تتقدَّم فيه الدول الغربية في سباق تلقيح المواطنين ضدّ فيروس كورونا وتمتلك احتياطاً كافياً من جرعات اللقاحات، لا يزال العديد من المواطنين في الدول العربية في انتظار وصول شحنات من اللقاحات الصينية والروسية والهندية، خاصة أنّ اللقاحات الأميركية والأوروبية باتت حكراً على الدول الغربية والغنية وكذا النخبة في العديد من الدول العربية.

ويتَّضح أنّ هناك اعوجاجاً في مبدأ العدالة الذي طالما تغنَّت به الدول الغربية المتحكِّمة في عملية إنتاج اللقاحات ضدّ كورونا التي تخضع بدورها لحتمية "الغرب أوّلاً ومن بعده الطوفان"، ولن يستقيم ذلك الاعوجاج حتى يتَّحد قادة مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى بشكل مُكثَّف لمعالجة عدم المساواة في اللقاحات المشحونة للخارج وفقاً لمعيار الأهمية "الجيوسياسية" أو "الجيوبوليتيكية".
بالرغم من وجود عرض قليل نسبياً من اللقاحات الغربية، إلا أنّ الدول الغربية ما زالت متخوِّفة من لجوء الدول الأخرى إلى الصين وروسيا والهند للحصول على اللقاحات خوفاً على تراجع هيمنتها وتفوُّقها مع أنّه بإمكانها منح تراخيص لإنتاج تلك اللقاحات في كل القارات، ولكنّها تفضِّل احتكار إنتاج تلك اللقاحات والتحكُّم في أسعارها.
وهكذا تجد الدول النامية ولا سيَّما الفقيرة منها نفسها في طابور انتظار طويل ومضطرّة لدفع مبالغ تفوق بكثير السعر الحقيقي لجرعات اللقاحات خاصّة بعد تأكيد إليزابيث شرايبين، المتحدثة باسم شركة فايزر الأميركية لإنتاج الأدوية، على بند السرية الذي يفرض على المشترين عدم التصريح بأسعار اللقاحات، الأمر الذي ينمّ على عدم وجود تسعيرة موحَّدة لكل من يرغب بالحصول على اللقاحات.

والأدهى والأمرّ أن ينتهي المطاف بالدول ذات الموارد المالية المحدودة والفقيرة إلى دفع أسعار تفوق بكثير تلك التي تدفعها حالياً نظيراتها الغنية مقابل جرعات اللقاحات، وسيزداد الطين بلّة إذا ما انتهجت تلك الأسعار منحى تصاعدياً وتضاعفت عدّة مرّات بسبب طمع وجشع الأغنياء الذين يستغلِّون بؤس الفقراء.

لقد ضخَّت الولايات المتحدة وأوروبا موارد مالية هائلة في مجال البحث عن اللقاحات وتطويرها، فعلى سبيل المثال، حصلت شركة موديرنا الأميركية والمعاهد الوطنية الأميركية للصحة على دعم حكومي بقيمة 2.5 مليار دولار.

كما قدَّم الاتحاد الأوروبي قرضاً بقيمة 122 مليون دولار لشركة BioNTech التي حصلت أيضاً على دعم مالي من الحكومة الألمانية بقيمة 458 مليون دولار بهدف تطوير لقاح Pfizer-BioNTech، هذا علاوة على مبلغ وصل إلى 30 مليار دولار قامت 20 شركة لتصنيع الأدوية مجتمعة باستثماره في تطوير لقاحات فعّالة ضدّ الجائحة وفقاً لتقرير BioWorld الصادر في 3 مارس/ آذار 2021.

يمكن للولايات المتحدة وأوروبا أن تربحا من خلال مشاركة تقنيات إنتاج تلك اللقاحات المتطوِّرة مع كافة الدول النامية أكثر بكثير من اكتناز اللقاحات واحتكار كيفية إنتاجها وتطويرها

ومع احتدام السباق الغربي لإنتاج اللقاحات، تطالب الدول ذات الدخل المتوسِّط والمنخفض في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، تلك الشركات الغربية بمنحها تراخيص لإنتاج اللقاحات ولكن بصوت يكاد لا يُسمع، ووحدها روسيا وافقت على إنتاج لقاح Sputnik V في البرازيل والهند وتركيا وكوريا الجنوبية والصين.

وإذا كان قادة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لا يزالون متمسِّكين بقيّم الديمقراطية والمساواة والعدل، فعليهم فعل الشيء نفسه بغية تلبية الطلب العالمي على تلك اللقاحات وتمكين العالم من الخروج من النفق الكوروني المظلم بأقلّ الأضرار.
يمكن للولايات المتحدة وأوروبا أن تربحا من خلال مشاركة تقنيات إنتاج تلك اللقاحات المتطوِّرة مع كافة الدول النامية أكثر بكثير من اكتناز اللقاحات واحتكار كيفية إنتاجها وتطويرها، حيث تتراوح المزايا من وضع حدِّ لدورة لا تنتهي من المصائب التي تقذفها كورونا على الاقتصاد العالمي إلى ترميم التجارة العالمية واكتساب نفوذ القوّة الناعمة.

حتى ادعاءات الشركات الغربية بارتفاع تكاليف هذه الخطوة البنَّاءة تسقط أمام التجربة الناجحة لتقاسم تكنولوجيا وبراءات اختراع أدوية نقص المناعة التي يعتمد عليها حالياً الملايين حول العالم.

وجدير بالذكر أنّ توسيع إنتاج اللقاحات في غضون ستة أشهر لا يتطلَّب تقاسم براءات الاختراع فحسب، بل يتطلب أيضاً مشاركة المعرفة والتكنولوجيا مع الشركات المتخصصة في تصنيع الأدوية في الدول النامية.

وبهذه الطريقة لن تساهم الشركات الأميركية والأوروبية في تكثيف إمدادات اللقاحات المضادّة لفيروس كورونا فحسب، بل ستجعلها أقلّ تكلفة أيضاً.
يمكن لهذه العملية أن تتجسَّد بنجاح على أرض الواقع نتيجة وجود موارد مالية هامة قدَّمتها المؤسسات الدولية في هذا المضمار، فقد وافق البنك الدولي على خطّة مساعدة بقيمة 12 مليار دولار لضمان حصول الدول النامية على لقاحات للوقاية من فيروس كورونا.

إذا تمكَّنت الدول الغربية من تحصين شعوبها من جائحة كورونا من خلال تزويدهم بأكثر اللقاحات فعالية، فلن تتمكَّن من تحصين اقتصاداتها

كما أعلنت مؤسسة التمويل الدولية عن توفيرها 4 مليارات دولار لمساعدة مُصنِّعي اللقاحات في الدول الأكثر فقراً، علماً أنّ هذا التمويل لم يصل بعد بشكل تامّ للدول النامية بسبب انعدام تنسيق الجهود لنقل المعرفة والتكنولوجيا.

ولكن يمكن للشركات الأميركية والأوروبية توفير الحلقات المفقودة في سلسلة الإنتاج العالمي للقاحات من خلال تجهيز المصانع معرفياً وتكنولوجياً وصناعياً ولوجستياً للبدء في عملية إنتاج اللقاح في الدول النامية خلال الأشهر المقبلة.
يمكن أيضاً للوكالة الأميركية للتنمية الدولية "USAID" ومؤسسة تمويل التنمية الدولية الأميركية "DFC" تقديم المساعدة المالية لتوسيع عملية إنتاج اللقاحات في الدول النامية من خلال تشييد المنشآت الإنتاجية وتدريب الموظفين.

إنّ الاهتمام السياسي للولايات المتحدة والدول الأوروبية بتعزيز عملية إنتاج لقاحات كورونا في الدول النامية سيصُبّ في مصلحتها الاقتصادية أوّلاً وأخيراً، فقد توقَّعت دراسة لغرفة التجارة الدولية "International Chamber of Commerce" تحت عنوان "الحالة الاقتصادية للتطعيم العالمي: نموذج وبائي لشبكات الإنتاج الدولية"، بأن تخسر الدول الغنية ما يقارب 4.5 تريليونات دولار إذا بقيت الدول منخفضة الدخل والفقيرة من دون تلقيح ضدّ كورونا.

كما أكَّدت الدراسة على أنّه إذا استمرَّت الدول الغنية في اتِّباع نهج غير منسق في توزيع اللقاحات، سيتعرَّض الناتج المحلي الإجمالي العالمي وحده لخسائر جمّة تصل إلى 9.2 تريليونات دولار في عام 2021.
خلاصة القول، إذا تمكَّنت الدول الغربية من تحصين شعوبها من جائحة كورونا من خلال تزويدهم بأكثر اللقاحات فعالية، فلن تتمكَّن من تحصين اقتصاداتها التي لن تعرف طريقها للانتعاش ما دامت لقاحات كورونا بعيدة عن متناول الدول النامية والفقيرة.

المساهمون