العالم والرئاسة الأميركية الجديدة

العالم والرئاسة الأميركية الجديدة

05 نوفمبر 2020
فرز الأصوات بإحدى المراكز في ولاية أوهايو
+ الخط -

عند البدء بكتابة هذه السطور، يكون قد مضى أربع ساعات فقط على فتح صناديق الاقتراع في شرق الولايات المتحدة. ومع أن محطات التلفزة، والصحافة، والإعلام المنظم الأميركي عموما، لا يزال يتجنب الخوض في التنبؤات بمن سيفوز أو سيخسر، ويكتفون بتحليل احتمالات النجاح مركّزين على الولايات المتأرجحة swing states))، إلا أنني سوف أغامر، وأقول إن تفضيلي للفوز سيصب في صالح المرشح الديمقراطي (الأزرق) جو بايدن، وأن يخسر المرشح الجمهوري (الأحمر) دونالد ترامب.

ولكن عندما يُنشر هذا المقال، أي بعد يومين من كتابته، سنكون قد علمنا النتيجة، أو توفرت لنا معلوماتٌ عن الفائز، علماً أن التأكيد الرسمي للمرشح الناجح قد يستغرق مدة أطول، ربما تصل إلى أسبوعين أو ثلاثة. وإذا كانت النتائج متقاربة في عدد الأصوات في ولاية متأرجحة، فلربما يُعاد فرز الأصوات يدوياً، ما يستغرق وقتاً أطول.

البنك القومي الثاني
وفق قصص الانتخابات الأميركية كانت هنالك معارك حاميّةُ الوطيس. ففي انتخابات عام 1828، أي قبل 180 عاماً، كان الرئيس أندرو جاكسون مرشحاً لولاية ثانية ضد جون كوينسي آدامز. وكان الموضوع الأساسي هو إعادة ترخيص البنك القومي الثاني (Second Chartered Bank) عشرين سنة، بعد انتهاء ترخيصه عام 1836. وقد كان رئيس البنك آنذاك رجل مالٍ معروفا، اسمه نيكولاس بيدل (Nicholas Biddle). وقد تركزت الحملة الانتخابية عام 1828 على فكرة ترخيص البنك من عدمه. وعلى الرغم من شدة الحملة، إلا أن الرئيس جاكسون فاز بالانتخابات، وألغى ترخيص البنك.
ونرى حملة عنيفة أخرى عام 1920، بعدما منحت النساء في الولايات المتحدة حق التصويت. ولقد كان شعار المرشح وارن هاردنغ (Warren Harding)، "انتخبوا هاردنغ لأن شكله شكل رئيس"، لافتاً النظر إلى وسامة الرجل كسباً لأصوات النساء، وفاز الرئيس هاردنغ، ولكنه لم يحكم سوى ثلاث سنوات، حيث مات بالسكتة القلبية. ومع أنه تمتع بشعبية عالية عند وفاته، إلا أن قضايا فساد كثيرة افتضحت بعد ذلك، وطاولته وبعضاً من وزرائه.

معارك شرسة
وأذكر وأنا طالب في بداية دراستي الجامعية في الولايات المتحدة المعركة الانتخابية بين المرشحين، الجمهوري ريتشارد نيكسون والديمقراطي جون كينيدي عام 1960، وقد كان كينيدي كاثوليكياً، وفاز على الرغم من ذلك، وسجل نفسه في صحف التاريخ أول رئيس غير بروتستانتي للولايات المتحدة. ولكن كينيدي اغتيل في خريف 1963.

ومن منا يَنْسى المعركة الانتخابية بين الرئيس جيمي كارتر الذي رعى مفاوضات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ضد منافسة الجمهوري رونالد ريغان القادم من هوليوود، علماً أنه كان قد فاز بانتخابات حاكم ولاية كاليفورنيا قبل ذلك. وكذلك ما زالت الذاكرة تعود بِنَا إلى عام 2000، حيث وقع خلاف على أصوات ولاية فلوريدا، ولكن محكمة العدل العليا الأميركية حكمت لصالح جورج بوش الابن على حساب آل غور المرشّح من الحزب الديمقراطي.
وشهدنا ونحن غير مصدّقين عام 2008، عندما فاز المرشح الديمقراطي من أصول أفريقية، باراك أوباما، برئاسة الولايات المتحدة بعدما هزم ميت رومني (Mitt Romney) الجمهوري.

انتخابات مكلفة
وأخيراً وليس آخراً، كان فوز دونالد ترامب عام 2016 على المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، والتي فازت بالأصوات الفردية، ولكن خسرت أصوات المندوبين (electoral college vote). وَمِن يعدْ إلى عام 1980، وحتى الآن يرى أن المعارك الانتخابية في الولايات المتحدة تزداد ضراوة وكلفة، وتكشف عن مجالات التفسّخ والتشرذم التي بدأت تغزو المجتمع الأميركي، وتفتّ في عضده.
انتخابات عام 2020 هي الأشد حرارة، ليس لأن نتائجها محصورة على الولايات المتحدة واقتصادها، وتقلص نفوذ البيض المسيحيين عدداً ونفوذاً، ولا بسبب سعيها إلى الهيمنة على العالم لاستخدامها قدراتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، ولكن لأن منافسيها ما عادوا يقبلون بذلك. ومهما قلنا عن دونالد ترامب، فإن انتهاء رئاسته ستعني أن التاريخ سوف يذكره كما يذكر الإمبراطور الروماني، ماركوس أوريليوس، الفيلسوف الذي اعتنق الفكر الرواقي الذي تسيطر عليه فكرة "دع الأمور تجري في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البال".

الديمقراطية الرومانية
وعلى الرغم من انتصارات ماركوس أوريليوس في حروب ضد القبائل في أوروبا، وتفوق الاقتصاد الروماني، إلا أن المؤرخين يعتبرونه بداية انهيار الديمقراطية، والذي تعمّق بعد موته عام 180 ميلادية، واستيلاء ابنه ذي العشرين سنة (لوشيوس أوريليوس) على الحكم. أما لما تكاثر "البرابرة" على الديمقراطية الرومانية، كما يقول المؤرخ البريطاني إدوارد جيبون ( Edward Gibbon)، فقد بدأت الإمبراطورية في التراجع والوقو

ع.
ومع أن الرئيس ترامب لوّح بالعصا الغليظة، إلا أنه قليلاً ما استعملها. ولعل سلاطة لسانه وغلاظة مقولاته على "تويتر" أظهرته، في نهاية الأمر، "مارداً من ورق "، وأنه يهيم في كل واد، ويقول أكثر مما يفعل. فهل سيكون الرئيس جو بايدن أكثر شراسة إن نجح؟
أميركا كبيرة، ووقوعها إن وقعت أو تراجعت بشكل ملحوظ، سيخلف آثاراً عميقة على أديم الكرة الأرضية وفضائها. ولكن الذين تألقوا إبّان حكم ترامب لا بد أن يبدأوا بالبحث عن أسلوب جديد في التعامل مع الولايات المتحدة التي، وعلى عكس التوقعات، ربما تكون أنعم لغة وأشد فعلاً.

المساهمون