الروبل الروسي وإخوته

الروبل الروسي وإخوته

06 ابريل 2022
الروبل استعاد بعد شهر تقريباً من فرض العقوبات كامل قوته (فرانس برس)
+ الخط -

بعد غزو القوات الروسية لأوكرانيا، ومع فرض الدول الغربية عقوباتها الاقتصادية على موسكو، فقد الروبل الروسي أكثر من 60% من قيمته خلال أيام قليلة.

لكنّ إجراءات البنك المركزي الروسي، التي شملت رفع سعر الفائدة على عملته المحلية من 9.5% إلى 20%، وفرض قيود على تحركات رؤوس الأموال لمنع المواطنين والمستثمرين الأجانب من تحويل أرصدتهم من البنوك الروسية إلى بنوك خارجية نجحت في ما يبدو في استعادة الثقة، وفقاً لأسعار الصرف المعلنة، في العملة الروسية. فقد استعاد الروبل بعد شهر تقريباً من فرض العقوبات كامل قوته التي كان عليها قبل الغزو.

وقبل يومين، كتب الاقتصادي الكبير بول كروجمان، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، مقالاً في جريدة نيويورك تايمز، عبر فيه عن دهشته من انتعاش الروبل الروسي، ومن تكثيف المسؤولين الاقتصاديين الروس جهودهم لحماية عملتهم المحلية، مع تجاهل كافة الأهداف الأخرى التي يتعين على البنوك المركزية والمؤسسات المعنية في أي بلد مراعاتها.

كروجمان يرى أنّ رفع الفائدة على الروبل لحمايته سيتسبب في تعميق ما يبدو أنّه ركود مقبل في الاقتصاد الحقيقي للبلاد، في أعقاب فرض العقوبات الاقتصادية الشاملة على روسيا بواسطة الدول الغربية.

تحدث كروجمان عن "الثالوث المستحيل"، وقصد به ثلاثة أشياء قد تريدها الدولة من عملتها؛ فقد ترغب في استقرار قيمة العملة مقابل العملات الأخرى، كالدولار أو اليورو، لخلق قدر من الثقة للشركات الأجنبية للقدوم والاستثمار في البلاد، وقد ترغب في السماح بتحرك رؤوس الأموال عبر حدودها بحرية لتسهيل الأعمال التجارية، وقد ترغب في التحكم في وضع سياساتها النقدية، أي أن تكون لها القدرة على خفض أسعار الفائدة لمحاربة الركود أو زيادتها لمحاربة التضخم.

وقال كروجمان إنّ تحقيق النقاط الثلاث يعد أمراً مستحيلاً، وإنّه يتعين اختيار اثنتين منهما على حساب التضحية بالثالثة.

لكنّ كروجمان أكد أنّ روسيا ضحت باثنتين من النقاط الثلاث، إذ فرضت قيوداً على تحركات رؤوس الأموال لحماية عملتها، ولم تضع السياسة النقدية بمحض إرادتها، فقد اضطرت لمضاعفة معدلات الفائدة رغم أنّ ركود اقتصادها يلوح في الأفق، ولم تتمسك إلّا بالدفاع عن استقرار سعر عملتها مقابل الدولار، مضحية في سبيل ذلك بالغالي والنفيس. وفسر كروجمان ذلك التوجه بكون سعر العملة واضحاً للجميع، ويمكن بسهولة متابعة تطوراته، سلبية كانت أم إيجابية، على عكس أغلب المؤشرات الاقتصادية الأخرى.

توقع الاقتصادي الشهير ألّا يعلَن عن ارتفاع معدل التضخم الروسي أو تراجع الناتج المحلي الإجمالي خلال الشهور القادمة، كعادة النظم السلطوية، لأنّها أمور يمكن إنكار حدوثها، على عكس سعر العملة الذي لا يمكن التستر على تحركاته، وهو ما جعل من الدفاع عن قيمة العملة المحلية، بغض النظر عن الحالة الحقيقية للاقتصاد، الشاغل الأكبر لواضعي الاستراتيجيات الإعلامية في موسكو.

وقال كروجمان إنّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ربما يجهل تلك التوجهات، تماماً كما يجهل سوء حالة جيشه على أرض المعركة، وفقاً لتحليلات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.

أثار مقال كروجمان شجوناً تتعلق بعملتنا المصرية، التي لم يتوقف خبراء الحكومة عن الإشادة بأدائها، وقوة تحملها للظروف الصعبة، من إصلاح اقتصادي إلى وباء عالمي، حتى أنّ البعض اعتبر أنّها كانت الأقوى في العالم في بعض الفترات، قبل أن نفيق صبيحة أحد الأيام لنراها تفقد في يوم واحد أكثر من 15% من قيمتها، وليتضح بعدها للجميع أنّها كانت مدعومة من البنك المركزي، باستخدام الأموال الساخنة التي جاءت إلينا، ودفعنا لها أعلى معدل فائدة في العالم، بينما كانت لا تحصل إلّا على فائدة تقترب من الصفر في بلادها.

اعتبر البنك المركزي المصري، ومن ورائه الحكومة بالتأكيد، أنّ أهم مؤشرات الحكم على الأداء الاقتصادي في أي دولة، وعلى القائمين عليه، هو قيمة العملة مقابل الدولار، فاجتهد الجميع لتقوية الجنيه على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، ضاربين عرض الحائط بكل الاعتبارات الأخرى، فجاء ذلك على حساب أغلب المؤشرات التي تعكس حالة الاقتصاد الحقيقية.

تمسك البنك المركزي المصري بتقوية الدولار والقضاء على السوق غير الرسمية التي دأب على تحميلها مسؤولية الأزمات السابقة، وكان طريقه إلى ذلك تلبية رغبات كل طالبي شراء العملة الأجنبية للاستيراد أو السفر أو حتى المضاربة، فاستخدم كلّ ما ورد إليه من أموال ساخنة، يعرف جيداً أنّها قروض سيتم ردها قريباً، في مقابلة طلبات الشراء حتى يبقى السعر مستقراً، ولا تظهر السوق السوداء مرة أخرى.

لم تكن الأموال الساخنة كافية رغم رفع الفائدة على الجنيه المصري لأكثر من عشرة بالمائة لسنوات طويلة، فلجأ إلى الاقتراض من الخارج، ليرتفع الدين الخارجي من حوالي 97 مليار دولار بنهاية عام 2018 إلى أكثر من 145 مليار دولار بنهاية عام 2021، وبنسبة ارتفاع تتجاوز 49% في ثلاث سنوات. فأين ذهبت تلك المليارات؟

لا أحد يمكنه الإجابة على هذا السؤال بشكل دقيق، وإن كان الشيء المؤكد هو أنّ جهة ما اشترتها لشراء سلعة أو خدمة من الخارج، وبدلاً من تحريك سعر الجنيه مقابل الدولار ليعكس زيادة الطلب على العملة الأجنبية عن الطلب على العملة المصرية، باع البنك المركزي، من خلال أذرعه في السوق المحلية، الدولار بسعر أقل من قيمته الحقيقية، ليُبْقِى على "القوة الوهمية" لعملته المفضلة.

الحقيقة أنّ هذه السياسة، التي اتبعتها مصر على مدار السنوات الخمس الأخيرة، وتبناها البنك المركزي الروسي خلال الأسابيع الأخيرة، غير قابلة للاستمرار، وتخفي الكثير من نقاط الضعف في الاقتصاد، انتظاراً لانتهاء الأزمة في الحالة الروسية، أو انتظاراً لمليارات الخليج في الحالة المصرية، ليبدأ مع وصولها عزف نشيد "نجاح سياسات الإصلاح الاقتصادي" و"عصر الإنجازات الاقتصادية" وكأنّ ما تعرضت له البلاد من اقتراب من انهيار العملة الوطنية قبل أسابيع كان في بلدٍ آخر.

المساهمون