الجزائر: حلم الشباب بالهجرة ومصيدة "الحرّاقين"

الجزائر: حلم الشباب بالهجرة ومصيدة "الحرّاقين"

07 يونيو 2021
ظاهرة الهجرة السرية غير الشرعية خرجت عن السيطرة (العربي الجديد)
+ الخط -

في ثالث أيام عيد الفطر المبارك، استيقظت أغلب شوارع المدن الساحلية الجزائرية على أخبار تسابق العديد من الشباب بشكل سري، نحو ما يعتبرونه جنان أوروبا بحثاً عن رغد العيش والثراء السريع ومستقبل أفضل وهرباً من الإقصاء والتهميش والبطالة ومشاعر الإحباط والحرمان بمختلف أشكاله.  
ويمكن تخيُّل مدى فداحة الظاهرة من خلال تغريدات لنشطاء محليِّين على "تويتر" أفادت بمغادرة 30 قارباً مُحمَّلاً بالمهاجرين السرِّيين أو ما يُعرف محلياً بـ"الحرّاقة" نحو الشواطئ الاسبانية في غضون أسبوع واحد فقط، فضلاً عن وصول أكثر من 500 مهاجر سرّي جزائري إلى السواحل الإيطالية خلال الفترة نفسها، التي تلت عيد الفطر، وفقاً لوكالة الأنباء الإيطالية. 
إذاً، هي ظاهرة خرجت عن السيطرة، وعجزت عن كبحها السلطات الجزائرية والأوروبية على حدّ سواء. 
لم تعد تفاصيل تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر خفيَّة، ويعود الفضل في ذلك إلى مقاطع الفيديو التي ينشرها "الحرّاقون" أثناء عبورهم البحر الأبيض المتوسط وبعد وصولهم إلى وجهتهم المنشودة. 

يتراوح ثمن الرحلة السرِّية للحرّاق الواحد على متن قوارب الموت ما بين 500 ألف و700 ألف دينار جزائري (3744- 5240 دولاراً)، ويرتبط ذلك السعر بطراز وجودة القارب الذي يمكن أن ينقل راكبيه من السواحل الغربية للجزائر إلى السواحل الإسبانية في مدّة لا تتجاوز أربع ساعات إذا كان سريعاً من طراز "فانتوم" والذي تصل سرعته إلى 60 عقدة في الساعة (أي حوالي 111 كم/ساعة) ويتراوح سعره بين 15 ألفاً إلى 45 ألف دولار، والذي يتحدَّد بدوره وفقاً لمميِّزات القارب ومكان صنعه والجهة المسؤولة عن بيعه، إذ يختلف الأمر ما بين تلك النظامية والمشتراة من السوق السوداء. 

يتراوح ثمن الرحلة السرِّية للحرّاق الواحد على متن قوارب الموت ما بين 500 ألف و700 ألف دينار جزائري (3744- 5240 دولاراً)

ليس من قبيل الصدفة بطبيعة الحال أن تتَّسم هذه الرحلات السرِّية بتنظيم دقيق لا يختلف كثيراً عن تنظيم الرحلات البحرية الرسمية من ناحية تفاصيل المواعيد وعدد الركاب، نظراً لتولِّي العصابات هذه المهمة التي تضمن لها الكسب السريع والربح الوفير.  
فقد كشفت تقارير لجريدة الشروق الجزائرية نُشرَت خلال إبريل/ نيسان ومايو/ أيار 2021 أنّ العصابات الناشطة في تهريب الشباب الجزائريين إلى الضفاف الإسبانية والإيطالية تتألَّف من بارونات المال غير الشرعيّ، من صاغة، ومقاولين، وأرباب مؤسسات، وحتى أبناء نواب سابقين، كما أشارت تلك التقارير إلى وقوع عدد من أعضاء تلك العصابات في أيدي السلطات الأمنية الجزائرية. 
لكن، على الرغم من مضاعفة جهود الرقابة الأمنية على مستوى السواحل الجزائرية وتعزيز الأطر القانونية للتصدِّي للهجرة السرِّية، فقد مكَّن انتشار الورشات السرِّية لصناعة القوارب السريعة من انفلات الأمور واستعصاء هذه الظاهرة على الحلّ، إذ تلعب تلك العصابات على حبلي توفير وسائل لنقل المهاجرين وتزويدهم بسترات النجاة وأجهزة التموضع من جهة وضمان حصولهم على العملات الأجنبية وأهمها اليورو من السوق السوداء من جهة أخرى، وما هذا إلاَّ نتيجة طبيعية لهشاشة أدوات المساءلة والمحاسبة وتغوُّل ممارسات الفساد  التي تسمح باتِّساع وتشعُّب الاقتصاد الموازي بكل أنشطته وفروعه المتَّصلة بعضها ببعض. 
ومن منظور آخر، تتضخَّم جيوب أباطرة الهجرة السرِّية في الجزائر بفضل الطلب المتزايد من جانب الشباب الجزائريين على أماكن في القوارب التي قد توصلهم إلى مبتغاهم أو تسلبهم أرواحهم، وفي القارب الواحد تتوحَّد أهداف "الحرّاقة" وتتمحور حول الحصول على عمل، والزواج من أجنبية، والحصول على وثائق الإقامة الرسمية، وكلّها أهداف يستوعبها العقل ويبرِّرها لمن ضاقت بهم الأحوال وتقطَّعت بهم السبل واستبدَّ بهم الفقر وداهمهم الشعور بالحرمان وحاصرتهم البطالة في الجزائر. 
لكنّ الذي يصعب تقبُّله هو تهافت الشباب الذين ينعمون بفرص عمل ويتمتَّعون بمباهج الحياة ﻤﻥ ﻁﻌﺎﻡ ﻭﺸﺭﺍﺏ ﻭﻤﻠﺒﺱ ﻭﻤﺴﻜﻥ ومركب، على الهجرة، فما هي دوافعهم لركوب قوارب الموت من دون تردُّد أو خوف بحثاً عن مستقبل غير مضمون قد يتحقَّق أو لا يتحقَّق؟ 
وإذا خاطبت أمثال هؤلاء الشباب الذين تلتفّ حولهم علامات الاستفهام، ستحصل على إجابة واضحة وبسيطة مفادها أنّهم يتمتَّعون بوعي كافٍ بأنّ كلّ ما يقومون به من عمل وما يبذلونه من جهد وما يتحمَّلون من مشقَّة يُمكِّنهم من الحصول على أضعاف مضاعفة من المال والعيش في ظروف أفضل في أوروبا مقارنة بما يجنونه من عمل أيديهم وما يمتلكونه في الجزائر، فهم يرون أنّهم يتمتَّعون بميزة نسبية عالية المردودية في الدول الأوروبية، وفي هذه النقطة تحديداً تدخل عوامل اقتصادية أخرى كنصيب الفرد من الدخل القومي، واتِّساع حجم السوق وتطوُّر البنية التحتية، بعين الاعتبار، في خصوص انجذابهم إلى الهجرة وإن بطريقة سرّية نحو الأراضي الأوروبية. 

تتضخَّم جيوب أباطرة الهجرة السرِّية في الجزائر بفضل الطلب المتزايد من جانب الشباب الجزائريين على أماكن في القوارب التي قد توصلهم إلى مبتغاهم أو تسلبهم أرواحهم

تشير نتائج استطلاعات الرأي التي أجراها الباروميتر العربي خلال الفترة الممتدة بين 2018 و2019 إلى أنّ 42 في المائة من المُستجوبين (من بينهم 59 في المائة شباب تتراوح أعمارهم ما بين 15 و29 سنة) صرَّحوا برغبتهم في مغادرة البلاد وإن بطريقة سرّية. وأشار المستجوبون إلى أنّ الدول الأوروبية التي يفضِّلون الهجرة لها هي فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا.  

كما أفاد 38 في المائة من المستجوبين (من بينهم 46.1 في المائة شباب) بأنّهم يُفكِّرون بالهجرة لأسباب اقتصادية كالبطالة والتضخُّم، وأعرب 22 في المائة من الأشخاص الذين شملهم هذا الاستطلاع (من بينهم 20.1 في المائة شباب) عن رغبتهم بالهجرة للهروب من ممارسات الفساد التي تُؤثِّر على مجريات حياتهم اليومية، بينما عبَّر 2.4 بالمائة و9.6 في المائة من المُستجوبين عن رغبتهم بالهجرة لأسباب أمنية وأسباب أخرى، على التوالي.  
إضافة إلى كلّ ذلك، لا يمكن تجاهل عوامل أخرى لا تقلّ أهمية في فهم الانسياق المحموم للشباب الجزائريين وراء الهجرة السرِّية، كسعيهم الحثيث للتنعُّم بنسمات الحرية وعبق الديمقراطية ونوعٍ من الاستقلالية والشعور بالأمن والأمان والاستقرار والعدل والإحساس بالكرامة في الدول الأوروبية، وإذا كلَّمتهم عن معاناة المسلمين هناك من مظاهر العنصرية وموجات الحقد والكراهية وممارسات التعصُّب العدائية لن تجد آذاناً صاغية ولا ضمائر واعية. 
خلاصة القول، إنّ ظاهرة الهجرة السرِّية ستزداد فداحة وخطورة ما دامت العوامل المُسبِّبة لها قائمة، وستزداد أعداد المهاجرين السرِّيين مع استمرار نشاط أباطرة هذه التجارة في الجزائر وارتفاع عدد مقاطع الفيديو التي ينشرها أولئك الذين تطأ أقدامهم الضفة الأوروبية. 

المساهمون