اقتصاد إسرائيل بعد ستة أشهر من الحرب

اقتصاد إسرائيل بعد ستة أشهر من الحرب

03 ابريل 2024
ارتفاع الانكماش بالناتج الإسرائيلي خلال الربع الأخير من العام الماضي (فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- إسرائيل خاضت حربًا طويلة الأمد ضد مقاومة خفيفة التسليح، مما يثير تساؤلات حول التكلفة والدلالات في ظل الحصار والتواطؤ العربي والعالمي.
- الاقتصاد الإسرائيلي شهد تراجعًا حادًا بنسبة 20.7% في الناتج المحلي الإجمالي بالربع الرابع من 2023، مؤثرًا على الاستهلاك الخاص وثقة الأسر والمستثمرين.
- ضغوط اقتصادية متزايدة أدت إلى خفض التصنيف الائتماني لإسرائيل وزيادة العجز المالي، مع بداية هجرة "المستثمرين الملائكيين"، مما يعكس هشاشة الوضع الاقتصادي.

استطاعت إسرائيل كسر قاعدة حتمية قِصَر حروبها التي ذكرها الفريق سعد الدين الشاذلي " رئيس أركان الجيش المصري السابق خلال حرب السادس من أكتوبر 1973"، والاستمرار بحرب طويلة نسبياً هذه المرة، حتى لو كانت حرباً غير متكافئة بأيّ معنى مع خصم بالمستوى ذاته، بل مع حركة مقاومة خفيفة التسليح، محدودة الإمكانات، معدومة خطوط التموين في ظل الحصار الخانق بتواطؤ عربي وعالمي، لكن يبقى السؤال بأيّ تكلفة؟ وما دلالات تلك التكلفة؟

فقد صدرت بيانات إسرائيلية حديثة تشير إلى ارتفاع الانكماش بالناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي خلال الربع الرابع من عام 2023، من التقديرات السابقة بنحو 11%، والتوقّعات اللاحقة الأسوأ بمقدار 19.4%، إلى تقدير أسوأ من الاثنين بمقدار 20.7%، لينخفض إجمالي النمو للعام كله إلى 2% مُقارنة بمعدل نمو 6.5% في العام السابق مباشرةً 2022، كما بلغ معدل نمو نصيب الفرد من الناتج الإجمالي للعام الأخير الصفر.

هذا الانخفاض بمعدل نمو الناتج الإجمالي، الذي وصفته مؤسسة كابيتال إيكونوميكس البحثية بأحد أدنى معدلات النمو بكامل تاريخ إسرائيل، تجاوز كذلك توقّعات الجهات البحثية المستقلة، كتوقع كابيتال إيكونوميكس نفسها بانكماش 9.5% على أساس فصلي، أو توقّع بلومبيرغ بانكماش أعلى بنسبة 15.2% على أساس فصلي كذلك، ما يمثّل صدمة لجميع الجهات المعنية باتساع الفجوة بين تصوّراتهم عن إسرائيل وحقيقة واقعها.

وفسّرت دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية الأرقام الجديدة الأوثق بحدوث انخفاضات أكبر من المُتوقع في كلِ من الصادرات للخارج والإنفاق الخاص والاستثمار بالأصول الثابتة، فضلاً عن نمو الإنفاق الحكومي العام بأقل قليلاً من المُقدر سابقاً، إذ تراجعت ثقة الأسر الإسرائيلية بعد هجوم 7 أكتوبر؛ فانخفض استهلاكها بنسبة 26.9% على أساس فصلي، وإنفاقها على الخدمات بنسبة 52%، وعلى السلع شبه المعمّرة بنسبة 58%، أما الاستثمار الثابت فانخفض بإجمالي 67.8%؛ مدفوعاً بتوقف شبه تام في أنشطة بناء المباني السكنية وتشييدها خصوصاً، بإجمالي انكماش 95.2%؛ بسبب نقص العمالة الناتج عن الاستدعاءات العسكرية، ومنع العمالة الفلسطينية العاملة في القطاع لأسباب أمنية.

وأظهرت مبيعات العقارات هذا التراجع في الإنفاق والثقة بوضوح، فكانت مبيعات العقارات المُسجلة في عام 2023 الأسوأ منذ 30 عاماً، في حين كانت مبيعات الربع الأخير من العام الأسوأ خلال 22 عاماً، رغم كل ما قدمه المطوّرون العقاريون من عروض وتسهيلات لم تغيّر الصورة جوهرياً.

وانعكس هذا التراجع بالثقة عموماً على ثقة المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين المختلفين، فبدأت وكالات التصنيف الائتماني الثلاثة الأشهر، موديز وفيتش وستاندرد آند بورز، بوضع الديون السيادية الإسرائيلية طويلة الأجل تحت المراجعة، وتحوّلت نظرتها إليها إلى سلبية، وهي الوكالات التي لم يسبق لها أن خفضت تصنيف إسرائيل الائتماني من قبل، والمعروفة بانحيازها المدفوع دوماً بالأهواء الغربية، كما حدث أن خفضت تصنيف روسيا بعدة درجات دفعةً واحدة بعد بضعة أيام فقط من الحرب على أوكرانيا.

لكن الأمر استغرق من وكالة موديز وحدها أربعة أشهر كاملة بعد الحرب لتخفض تصنيف إسرائيل من A1 إلى مستوى A2، مع نظرة مستقبلية سلبية تشير إلى احتمالات بمزيد من الخفض، وتوقعات بارتفاع الدين العام بدلاً من التوقعات السابقة بانخفاضه؛ خصوصاً مع بوادر ارتفاع الإنفاق الدفاعي، الذي تُوقع وصوله إلى الضعف، وهو الخفض الائتماني الذي تم رغم كل الضغوط الإسرائيلية لإقناع الوكالة بعدم الخفض، والذي وصفته صحيفة يديعوت أحرونوت بأنه الأول من نوعه منذ إدراج إسرائيل بالتصنيف الائتماني عام 1998، والذي سيرفع تكاليف الاقتراض ويضعف العملة ويخفض التدفقات الاستثمارية.

وكانت وكالة فيتش قد أعلنت في فبراير/شباط الماضي كذلك احتمالية سيرها على نهج "موديز" بخفض تصنيف إسرائيل بالدرجة نفسها، وإن لم تصدر أيّة تحديثات بعد، مُؤجلةً تقريرها الذي كان مُقرّراً صدوره في مارس/آذار الماضي، بعد ما أشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى تأكيد المحاسب العام للدولة بالوكالة تحسّن المؤشرات بمشروع الموازنة الذي سيصادق عليه الكنيست للعام الجديد قريباً، وسيتضمّن رفعًا لضريبة القيمة المضافة وضريبة الصحة والبنوك وتقليص الأعباء بالموازنة العامة؛ بما يحسّن المؤشرات المالية للدولة.

أمر تخالفه بعض التحليلات، كإشارات البروفيسور مومي دهان الأستاذ بمدرسة فيدرمان للسياسة العامة والحكم بالجامعة العبرية في القدس، في حديث إلى موقع كالكاليست العبري، عن عدم شفافية الحكومة الإسرائيلية بشأن رقم العجز الحقيقي بموازنة عام 2024، وارتفاعه عن الرقم المُعلن بحوالي 35%، يمثل الفارق ما بين العجز المُعلن 36 مليار دولار والحقيقي 47 مليار دولار، بما يرفع نسبة عجز الموازنة من 7 إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي، مؤكداً أنها ليست الواقعة الأولى من نوعها، بل سبق أن فعلتها الحكومة خلال انتفاضة الأقصى عام 2002؛ ما سبّب وقتها انخفاض سعر صرف الشيكل وتهديد الاستقرار المالي لبعض البنوك والإضرار بالسمعة الاستثمارية والائتمانية لإسرائيل.

تؤكد هذه الرؤية بشأن حالة الاضطراب المالي والاقتصادي عموماً التصريحات العديدة من المسؤولين الإسرائيليين مختلفي المشارب والمسؤوليات، كمطالبة أمير يارون محافظ البنك المركزي الحكومة بسياسة مالية واضحة ومسئولة تكبح الإنفاق غير الدفاعي لتعويض زيادات الإنفاق العسكري.

كذا تخطيط الحاجات الدفاعية الإسرائيلية بصورة مدروسة تقليلاً لتأثيراتها السلبية على الدين العام والاقتصاد، والتي دعمتها تحذيرات إيلان بيلتو الرئيس التنفيذي لاتحاد الشركات العامة بإسرائيل من مغبّة استمرار خرق الموازنة العامة وتكرارها تحت ضغوط الإنفاق العسكري المتزايد؛ بما يرتّب آثاراً سلبية على أصعدة توظيف الضرائب والرفاه الاجتماعي.

وهي تصريحات منطقية ومفهومة على ضوء الارتفاع الضخم في الإنفاق الحكومي على الحرب والتعويضات بنسبة 88.1%، والتوقّعات بارتفاع العجز المالي من 5.6% من الناتج الإجمالي خلال السنة المنتهية في فبراير 2024، إلى أكثر من 6.6% منه خلال الأشهر القليلة القادمة.

هذا الارتفاع في العجز المالي بسبب أعباء الحرب، إلى جانب زيادة أسعار الفائدة بسبب ارتفاع المخاطر وخفض التصنيف الائتماني وغيره من أسباب ناتجة عن طول أمد الحرب كذلك، سيؤديان إلى مزيد من الضغوط على القدرة الائتمانية لإسرائيل وجودة شروطها من جهة، ومن جهة أخرى على سعر صرف الشيكل في مواجهة العملات الأخرى؛ بما قد يضطر البنك المركزي إلى التدخّل واستنزاف جزء من احتياطياته للدفاع عنه للمرة الثانية منذ الحرب.

في المقابل، لا يعكس جمع إسرائيل حوالي ثمانية مليارات دولار عبر سنداتها الحكومية مؤخراً نجاحاً اقتصادياً صافياً؛ لعدم اعتماده حصراً على المعطيات الاقتصادية البحتة، مع استناد جزء معتبر منه على نشاط يهود الشتات والمنظمات الصهيونية والدعم الغربي عموماً، كما ظهر في تصريحات أندرو إم هوتر، رئيس مجلس إدارة السندات الإسرائيلية الوطنية والدولية، بأن أكثر من 12 ولاية ومؤسسة على مستوى الولايات المتحدة قد استثمرت في السندات الإسرائيلية، واصفاً إياه بأنه استثمار من القلب وجزء من نشاط يهود الشتات لدعم إسرائيل ومواجهة العداء للسامية.

هذا الدعم المُنطلق من الانتماء والتعاطف، لا يكفي وحده لاستمرار تدفق الأموال بالحجم ذاته والوتيرة ذاتها؛ فعاجلاً أو آجلاً تحرّك الأموال حسابات المكسب والخسارة.

ولعلّ أبرز مظاهر ذلك هو بوادر ما وُصف بهجرة "المستثمرين الملائكيين" الاقتصاد الإسرائيلي، الذين يستثمرون في الغالب في الشركات الناشئة في القطاعات الرائدة، كقطاع التكنولوجيا الفائقة شديد الأهمية للاقتصاد الإسرائيلي، والذي حقّقت به إسرائيل طفرة معتبرة عبر الثلاثة عقود الماضية، ليصبح القطاع الأكثر إنتاجية والأعلى تصديراً في الاقتصاد.

وقد انخفضت كل مؤشرات هذا النوع من المستثمرين بإسرائيل منذ ما قبل الحرب، ويُتوقع استمرار الاتجاه وتفاقمه مع الاضطرابات الأمنية والعسكرية المتزايدة وتدهور المؤشرات المالية للاقتصاد.

فمن نحو 300 مستثمر ملائكي نشط عام 2021، كان هناك 251 عام 2022، ولم يبق منهم سوى 61 فقط عام 2023، بانخفاض 80% تقريباً خلال عامين لا أكثر، ولم تتجاوز 57% من استثماراتهم 100 ألف دولار للصفقة، بل لم يتجاوز ثلثها خمسة آلاف دولار للصفقة؛ بما يعكس بوادر اتجاه من المُرجّح أن يعزّزه تطاول أوضاع الحرب والاضطرابات.

أوْهَى من بيت العنكبوت!

بحسب شاي أهارونوفيتش مدير مصلحة الضرائب الإسرائيلية، بلغت الأضرار الاقتصادية التي تحمّلتها إسرائيل بسبب حرب غزة، حتى أول مارس، ستة أضعاف نظيرتها التي نتجت عن حربها مع حزب الله بلبنان عام 2006، وكل ذلك رغم الدعم الأميركي والأوروبي الضخم، وفي حين لا تزال العملية العسكرية محصورة فعلياً بحدود غزة، من دون اضطرابات جدية في الضفة الغربية، أو صدام عسكري واسع مع حزب الله بشمال لبنان، أو بالتأكيد، من دون أن يرتقي الوضع إلى مستوى حرب حقيقية مع جيش حقيقي بمقاييس جيوش الدول.

ولا شك أن الاقتصاد الإسرائيلي لا يزال قوياً، لكن تظل الدلالة المركزيةا لاضطرابات كهذه وخسائر كبيرة وسريعة نسبياً بالمقارنة بنطاق الأحداث وحجم الخصم العسكري، ومحدوديتهما الجغرافية والتقنية واللوجستية، هي مدى الهشاشة الكامنة في الوضع الإسرائيلي، وعدم قدرته على الصمود العميق طويل الأجل في مواجهة صدامات حقيقة بمقاييس الدول.

ليس ذلك فقط، بل الأكثر دلالة وأهمية هو تجاوز الآثار لكل التوقّعات، على الأقل على صعيد المؤشرات الاقتصادية الأساسية المُعلنة، رغم ما يؤكده الإسرائيليون أنفسهم من تلاعب الحكومة الإسرائيلية –الذي له سوابقه- بالبيانات، ورغم تحيّز المؤسسات الدولية وتساهلها معها، بما يعني أن الأوضاع الحقيقية قد تكون أسوأ حتى مما وصلنا حتى تاريخه.

والنتيجة التي نستخلصها من كل ذلك، سواء على صعيد الاقتصاد أم العمليات العسكرية التي لم يحسمها بتحقيقه أهدافه بعد، هي أن العدو ليس صلباً منيعاً كما يحاول تصوير نفسه، وسبب استمراره وتغوّله ليس قوته الذاتية التي يحاول تضخيمها، بل التخاذل العربي والإسلامي بالأساس، والذي لا يقل أهميةً وتأثيراً عن الدعم الاستعماري الغربي.

المساهمون