أزمة العملة والتصنيف الائتماني لمصر

أزمة العملة والتصنيف الائتماني لمصر

31 اغسطس 2022
الجنيه المصري يواجه المزيد من المخاطر (getty)
+ الخط -

لم يتوقف الحديث في مصر خلال الأشهر الخمسة الأخيرة عما اصطلح على تسميته أزمة العملة، في أعقاب سماح البنك المركزي المصري للجنيه بالانخفاض في يومٍ واحد بنحو خمسة عشر بالمائة في شهر مارس/ آذار الماضي، واضطرار الحكومة المصرية للجوء إلى السعودية والإمارات وقطر للحصول على ودائع بقيمة 13 مليار دولار تعزز بها احتياطيات النقد الأجنبي لديها، بالإضافة إلى البيع المعجل لحصة الحكومة المصرية في العديد من الشركات والبنوك الناجحة.

بدأ الحديث على استحياء على مستوى الأصدقاء والمعارف، لظروف يعرفها الجميع، ثم وصل لوسائل التواصل الاجتماعي، تلميحاً ثم صراحةً، قبل أن ينتقل إلى وسائل الإعلام المصرية التي استضافت خلال الفترة الأخيرة مجموعة من خبراء الاقتصاد الذين تميزوا بصراحة لم تكن معهودة خلال السنوات الثماني الأخيرة، حتى أنّ البعض اعتبر أنّهم يفعلون ذلك عمداً، للتمهيد ربما لخفض آخر في قيمة العملة المصرية.
وفي تصريحات رسمية، قالت الحكومة إنّ الظروف السيئة التي يمر بها الاقتصاد المصري حالياً جاءت كنتيجة حتمية لأزمات عالمية لا دخل للمصريين بها، مثل وباء كورونا، وتعثر سلاسل الإمدادات حول العالم، ثم الحرب الروسية الأوكرانية. وقال خبراء الاقتصاد في مصر والعالم إنّ الحروب والأوبئة والكوارث لا تخلق الأزمات من عدم، وإنّما تعجل بها، وفي بعض الأحيان تزيد حدتها، قبل أن تتم الإطاحة بمحافظ البنك المركزي المصري طارق عامر الذي أدار السياسة النقدية في البلاد خلال السنوات السبع الأخيرة، وكأنه، وفقاً لبيانات الحكومة، كان هو المسؤول عن الوباء الصيني أو الحرب الأوكرانية.
تكررت وما زالت تتكرر علامات الخطر المحيطة بالاقتصاد المصري، من هروب الأموال الأجنبية الساخنة التي اعتمدت عليها البلاد لسدّ العجز في الحساب الجاري على مدار السنوات الثلاث الأخيرة على أقل تقدير، واستنفاد أغلب فرص الاقتراض الخارجي التي كانت متاحة خلال الفترة الماضية، من دون استغلالها في تحقيق تنمية حقيقية، أو إصلاح الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد، بالإضافة إلى استمرار الاعتماد على الخارج لتوفير القمح والشعير والزيوت اللازمة لإطعام ملايين المصريين، وأيضاً لتوفير كميات ضخمة من المواد الخام والسلع الوسيطة التي تعتمد عليها نسبة كبيرة من المصانع العاملة في مصر.

ومع كلّ تلك المخاطر، وفيما اعتبره وزير المالية المصري محمد معيط "شهادة ثقة دولية جديدة في قدرة الاقتصاد المصري على مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية الراهنة"، ثبتت مؤسسة فيتش العالمية للتصنيف الائتماني تصنيفها لمصر عند مستوى B+، أواخر شهر إبريل/ نيسان الماضي، وأكدت وكالة موديز العالمية للتصنيف الائتماني تصنيف مصر عند مستوى B2 في شهر مايو/ أيار الماضي، وكذلك فعلت وكالة إس آند بي في إبريل الماضي، التي أكدت تصنيف مصر عند مستوى B، وإن حذرت واحدة من تلك المؤسسات أو اثنتان من تدني النظرة المستقبلية للبلد الأكثر تعداداً للسكان في الوطن العربي، حال استمرار ارتفاع أسعار السلع التي تستوردها، وتراجع إيرادات السياحة والاستثمارات الواردة للبلاد.
لا أثق عادة في تقييم مؤسسات التصنيف الدولية، وأعتبرها في كثير من الأحيان مسيسة، وتخدم مصالح الدول الغربية التي تسيطر عليها أكثر من أي شيء آخر، فلم أسعد يوماً بتحسن تصنيفها، ولم أقلق بتراجع تصنيفها، على مر العصور، ومع اختلاف الظروف الاقتصادية التي تمر بها مصر. وفرضت علي طبيعة عملي لأكثر من ربع قرن في أسواق المال الاعتماد على ما تقوله الأسواق، قبل وبعد وأثناء النظر إلى تقييم المؤسسات الدولية، كون الأولى في أغلب الأحوال أصدق أنباءً من الأخيرة.
تقول أسواق المال حالياً الكثير عن النظرة المستقبلية للاقتصاد المصري من قبل المستثمرين، حيث ما زالت السندات الدولارية المصرية المستحقة في العام 2040 تباع وتشترى بأقل من قيمتها عند الإصدار بحوالي 38%، بعدما وصلت في شهر يوليو/ تموز الماضي لأقل من 50% من تلك القيمة.
وتعكس الأسعار الحالية لتداول السندات المصرية عائداً حتى الاستحقاق يتجاوز 12%، بينما كانت أسعار يوليو الماضي تعكس عائداً حتى الاستحقاق لا يقلّ عن 15%، وكلا السعرين يعكس نظرة متدنية جداً من المستثمرين لقدرة الحكومة المصرية على سداد قيمة تلك السندات ومدفوعات الفائدة المرتبطة بها.
وعلى مؤشر آخر، وباستخدام معدلات الفائدة الحقيقية وأسواق العقود المستقبلية غير القابلة للتسليم، قدر موقع تريدينغ إيكونوميكس، وهو أحد أهم مراكز المعلومات الاقتصادية غير المنحازة حول العالم، سعر الدولار مقابل الجنيه المصري بـ19.46 جنيها قبل نهاية سبتمبر/ أيلول 2022، ثم ارتفاعه إلى 20.71 جنيهاً خلال الشهور الاثني عشر التالية. ولم يستسلم التاجر الذي توقفت تجارته مع القيود التي فرضها البنك المركزي على بيع الدولار للمستوردين خلال الفترة الأخيرة، حيث يتناقل كثيرون أسعاراً أعلى من ذلك يتم التعامل بها في السوق الموازية في مصر حالياً.

وعلى نحو متصل، نشر صندوق النقد الدولي، العام الماضي، على موقعه على الإنترنت بعض التفاصيل عن قروضه المقدمة لمصر، أكد فيها أن مصر ستضطر لدفع 2% إضافية فوق معدل الفائدة المعتاد على القروض المقدمة إليها، نظراً لتجاوز ما حصلت عليه بالفعل نسبة 187.5% من حصتها لدى الصندوق، وأن استمرار هذا التجاوز لمدة عام سيحملها 1% أخرى على أي قرض تحصل عليه، وهو ما يعني زيادة 3% فوق كلفة القروض المعتادة، والتي ارتفعت بالفعل بعد رفع مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) معدل الفائدة على أمواله بمقدار 2.25% منذ بداية العام الحالي.
هذه هي المؤشرات الحقيقية لمصر الآن، وهذا هو تصنيفها بحياد. سندات تباع بأقل من ثلثي القيمة، وجنيه مرشح لفقدان سبعة بالمائة في أكثر التقديرات تحفظاً، بعد عشرين بالمائة فقدت بالفعل خلال الشهور الخمسة الأخيرة، بينما السوق الموازية تعكس خسائر أكبر، وصندوق نقد يسعى لإيجاد مخرج لإقراضنا حزمة "ربع إنقاذ"، بكلفة مضاعفة، حتى لا يعرف العالم أن ملياراته السابقة، وبرامجه للإصلاح الاقتصادي، فشلت جميعها، رغم ما تسببت فيه من إفقار العباد وإفساد البلاد، في زمن حكم خير الأجناد.

المساهمون