عن تهاوي سندات مصر السيادية

عن تهاوي سندات مصر السيادية

20 يوليو 2022
تراجع سعر سندات "يوروبوند" المصرية يؤشر لمتاعب الاقتصاد المصري (getty)
+ الخط -

مع نهاية تعاملات الأسبوع الماضي، ورغم إغلاق البنوك المصرية لتسعة أيام متصلة بسبب عطلة عيد الأضحى المبارك، تراجع سعر سندات "يوروبوند" المصرية استحقاق عام 2040 منخفضاً تحت مستوى الخمسين (قل خمسين بالمائة للتبسيط) لأول مرة منذ بيعها قبل أكثر من اثني عشر عاماً، فتجاهلت الأمر أغلب وسائل الإعلام المصرية، على الرغم مما يمثله هذا السعر من أهمية بالغة باعتباره لقطة شاملة ودقيقة للحالة الاقتصادية في مصر.

وبداية للتوضيح، هذا السعر يعني أن من اشترى السندات المصرية بسعرها التعادلي عند إصدارها عام 2010 واحتفظ بها حتى الآن، تمكن من الحصول على كوبون (فائدة) سنوية تقدر بحوالي 6.875%، إلا أنه إذا أراد أن يبيعها، فوفقاً لأسعار يوم الجمعة لن يتمكن من جمع أكثر من نصف ما أنفقه في شرائها.
هذا السعر، والتطورات العنيفة التي تعرضت لها السندات خلال الشهور العشرة الأخيرة، وتحديداً خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، يعكس تخوف المستثمرين من عدم تمكن الحكومة المصرية من سداد قيمة تلك السندات عند استحقاقها بعد ثمانية عشر عاماً، الأمر الذي يدفعهم إلى التخلص منها، حتى لو كان في ذلك ضياع لنصف استثماراتهم.

وبعد إصدارها، تحرك سعر السندات صعوداً وهبوطاً فوق القيمة التعادلية التي تم الإصدار عليها في حدود مقبولة، إلا أنه شهد انخفاضاً كبيراً في يونيو/ حزيران من عام 2013، ليسجل 72%، ثم يرتفع بعدها وينخفض مرة أخرى قبيل نهاية الربع الأول من عام 2020، الذي شهد ظهور وانتشار فيروس كوفيد - 19 في أغلب بلدان العالم، ليسجل 70%، ويرتفع بعدها، قبل أن يعود للانخفاض مرة أخرى، بمعدلات سريعة هذه المرة، وصولاً إلى أقل من 50% الأسبوع الماضي.

تعددت العوامل التي دفعت بسعر السندات السيادية المصرية إلى هذه المستويات المرعبة، فكان أولها رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" سعر الفائدة على أمواله، ومن ثم ارتفاع عائد سندات الخزانة الأميركية الأكثر أماناً في العالم، ليتضاءل الفارق بينه وبين عائد السندات المصرية، ثم جاء خروج الأموال الساخنة من سوق أدوات الدين المصرية بالعملة المحلية وتزايد الطلب على شراء الدولار، بالإضافة إلى ارتفاع المخاطر الجيوسياسية مع بدء روسيا غزوها لأوكرانيا، وكلها مثلت ضغوطاً كبيرة على العملة المصرية، وعلى قدرة الحكومة المصرية على الاقتراض بالعملة الأجنبية.

وزاد من سوء الأوضاع ارتفاع الدين الخارجي المصري إلى مستويات غير مسبوقة، مسجلاً 157 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام الحالي، بالتزامن مع انخفاض احتياطي النقد الأجنبي إلى 33 مليار دولار، لا تغطي إلا أربعة أشهر من الواردات المصرية، في أكثر التقديرات تفاؤلاً.

لم تتوقف التداعيات السيئة لكل ما سبق على الفترة الماضية، حيث امتدت لتلقي بظلالها على النظرة المستقبلية للاقتصاد المصري، وهو ما ظهر في تعديل بعض مؤسسات التقييم الدولية نظرتهم المستقبلية إلى سالبة / متشائمة بعد أن كانت مستقرة.

واللافت أن النظرة السلبية جاءت أيضاً من بعض أبواق النظام المصري، التي ظلت لسنوات تشيد بالإنجازات التي تم تحقيقها على صعيد التنمية الاقتصادية وإصلاح الاقتصاد وانطلاقه نحو العالمية، فإذا بها تبدأ في التمهيد لحدوث تطورات سلبية، يعاني آثارها ملايين المواطنين المصريين خلال الفترة القادمة.

وقبل أقل من شهر، كتب صحافي معروف بقربه من النظام المصري مقالاً أكد فيه تعرض البلاد لظروف اقتصادية استثنائية، مطالباً دول الخليج بدعم مالي يقدر بنحو 25 مليار دولار يتعين توفيرها لمصر بصورة "فورية"، ومحذراً إياها من عواقب وخيمة إن لم تفعل ذلك.

عكس سعر السندات المصرية الذي لم نره منذ قيام مصر بطرح أول سند لها في الأسواق الدولية قبل ما يقرب من ربع قرن كل الأخبار السيئة التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية عن الاقتصاد المصري خلال الفترة الأخيرة، بدءاً من تراجع الاحتياطي الأجنبي وارتفاع الدين الخارجي وضخامة المبلغ المطلوب الوفاء به قبل نهاية العام الحالي، إلى تراجع النظرة المستقبلية من مؤسسات التقييم الدولية للاقتصاد المصري ونشر وكالتي رويترز وبلومبيرغ تقارير تؤكد احتلال مصر مرتبة متقدمة ضمن الدول الأكثر تضرراً من الحرب في أوكرانيا، والأكثر عرضة لعدم التمكن من سداد ديونها، بالإضافة إلى تزايد عجز صافي الأصول الأجنبية لدى البنوك المصرية ليكون سالباً 305 مليارات جنيه، "الدولار يساوي 18.91 جنيهاً"، واتساع عجز الموازنة المصرية ليبلغ 1.5 تريليون جنيه، بزيادة 50% مقارنة بالعام الماضي.

في ظروف سابقة، كان البنك المركزي المصري يعهد لذراعيه بالسوق، البنك الأهلي المصري وبنك مصر، بالعمل كصانع سوق لتلك السندات، باستحقاقاتها المختلفة، في السوق الثانوية، حتى لا ينهار سعرها كما حدث في الأسابيع الأخيرة، إلا أن ضيق ذات اليد من العملة الأجنبية تسبب في عجز البنكين الحكوميين عن التدخل هذه المرة.

بقى أن أوضح أن الدولة المصرية، بحكومتها، وبنكها المركزي واحتياطي النقد الأجنبي لديه، لا تتحمل أي تكلفة إضافية مباشرة من انخفاض سعر السندات في السوق الثانوية، والذي يعكس بالضرورة ارتفاع العائد حتى الاستحقاق، الذي يطلق عليه YTM، المدفوع لحامل السندات، إلا أن التكلفة غير المباشرة عادة ما تكون شديدة الضخامة، حيث يتعذر على البلد مصدر السند الذي هوى سعره بهذه الصورة العودة إلى سوق السندات الدولية في القريب العاجل، أو حتى الحصول على قروض ثنائية من أي بلد أو منظمة دولية، اللهم إلا بشروط مجحفة، وتكلفة مرتفعة، وتدخلات دولية من قوى عظمى، لها كلمة على الجهات المقرضة.

تشير التوقعات، مع التسريبات التي خرجت في أعقاب انتهاء قمة جدة الأخيرة، إلى دعم الولايات المتحدة لجهود مصر للحصول على قروض جديدة، وهو ما يمكن أن يسهم في تخفيف خسائر السندات السيادية المصرية بعض الشيء، إلا أن الأمور ستكون عرضة لمزيد من التردي لو لم تنجح مصر في الحد من عجز حسابها الجاري في أقرب وقت ممكن.

المساهمون