أزمة البنوك الغربية ومستقبل الرأسمالية

أزمة البنوك الغربية ومستقبل الرأسمالية

28 مارس 2023
شبح الإفلاس يهدد العديد من البنوك الأميركية والأوروبية (Getty)
+ الخط -

بينما كان العالم يتحسب لتداعيات أزمة التضخم السلبية، وأثرها على معدل النمو الاقتصادي، الذي توقعت له المؤسسات المالية الدولية رؤية متشائمة بعام 2023، ليكون بحدود 2.7%، أو احتمالات أن يتدنى إلى 2%، إذا بأزمة جديدة تضرب بنوك كبيرة في أميركا وأوروبا، لتعلن ثلاثة منها إفلاسها، وبنوك أخرى يزيد عددها عن المائة مهددة بشبح الإفلاس.

انعكس الأثر السلبي لأزمة البنوك في الأجل القصير على البورصات وأسواق المال، وسعر الدولار، وأدى إلى انخفاض أسعار النفط، بينما حلق الذهب إلى آفاق عالية، باعتباره الملاذ الآمن. كما زاد الاقبال على العملات الرقمية.

وثمة توقعات، بأن تكون هناك تأثيرات متوسطة وبعيدة المدى لأزمة المصارف، على مستوى خريطة القوى الاقتصادية، والاستثمارات الدولية، لكن السؤال الذي يتطلب إجابة، هو: ما أثر تلك التأثيرات الناجمة عن الأزمة المتفاقمة في أميركا وأوروبا على مستقبل الرأسمالية، هل سنكون أمام نظام اقتصادي جديد، يستبعد قواعد الرأسمالية المتعلقة بسعر الفائدة، وتجارة الديون، وأسواق المال؟

تزداد صعوبة الإجابة عن هذا السؤال، في ظل المعرفة التامة التي تخص المنافس القوي لأميركا وأوروبا وهو الصين، التي لا تحمل في جعبتها سوى الأوراق والأدوات الرأسمالية.

فالماوية والماركسية، ليست من خيرات الصين، ولا من خيرات تجمع "البيركس"، ولم تُستدع من قبل في ضوء مشكلات عالمية سابقة، حتى قضية العدالة الاجتماعية التي تبرز في النظام الاشتراكي، ثم استيعابها منذ فترة في ضوء تجربة الرأسمالية الاجتماعية، أو اقتصاد السوق الاجتماعي، التي طبقت بشكل كبير في ضوء تجربتي ألمانيا واليابان، حيث تحصل الحكومات على ضرائب تصاعدية بنسبة كبيرة، لصالح برامج الحماية الاجتماعية، من تأمين صحي واجتماعي، وكذلك دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتوفير خدمات تعليمية وصحية للصغار بشكل مجاني، بل كواجب حتمي على الدولة أن تقوم به.

فهل ستظل الرأسمالية الخيار الأوحد لاقتصاديات العالم، مع بعض التعديلات هنا أو هناك، أم سوف يبرز نظام جديد؟

الرأسمالية تجدد نفسها

في ضوء قواعد الرأسمالية التجريدية، فإن التصرف بتدخل البنوك المركزي لحماية البنوك المفلسة أو المعرضة لمخاطر، أو دفع تعويضات للمودعين، غير مقبول، فعلى هذه المؤسسات الخروج من السوق، لتحل محلها مؤسسات أخرى، وليتحمل المودعون نصيبهم من المخاطرة.

وحسب قواعد الرأسمالية، فإنّ السوق يصحح أخطاءه بنفسه، ويطلق العنان لليد الخفية، في مسألة إصلاح السوق والنشاط الاقتصادي، لكن هذه القواعد التجريدية، ومن خلال القراءات التاريخية لم يكن لها نصيب من الواقع، حينما يتعلق الأمر بالاقتصاد القومي، واتساع تأثير المشكلات على المجتمع، قد يكون مقبولا على مستوى الأفراد أو المشروعات.

ففي أزمة الكساد الكبير، شهدت الرأسمالية تطوراً كبيراً، على الصعيدين، العلمي والعملي، فعلى الصعيد الأول، وجدنا نظريات كينز في الفائدة والنقود والتوظيف، وتخلى الغرب والنظام الرأسمالي عن نظرية الدولة الحارسة، بشأن الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، وشهد العالم دور الدولة المتدخلة، التي مارست إنتاج السلع والخدمات، كمخرج من أزمة الكساد الكبير، وقد كان بالفعل هذا هو المخرج.

وفي قراءة للاقتصادي المصري الراحل د. فؤاد مرسي، رأى أن التكنولوجيا كانت رداء الرأسمالية في التجديد بعد الثورة الصناعية، وبالتالي ظلت تمسك بقيادة الاقتصاد العالمي، وبالفعل كانت التكنولوجيا وما نتج عنها من ثورة الاتصالات والمعلومات، أحد أهم أقوى مقومات سيطرة أميركا على الاقتصاد العالمي، والتكنولوجيا الآن مضمار السباق بين أميركا والصين، ومن سيحسم السباق سيتولى قيادة العالم اقتصادياً.

أميركا والتخلي عن الرأسمالية

في الأزمة المالية العالمية 2008، كان العالم ينتظر تخلي أميركا عن بنك "ليمان برازرز" وشركة التأمين، التي كانت تغطي خدماتها تلك البنوك التي تورطت في منح القروض الرديئة، التي تسببت في الأزمة، ولكن مخاطر هذا السيناريو كانت مخيفة، لكبر عدد البنوك التي كان يتوقع أن تفلس في ذلك الوقت.

هنا تصرفت حكومة جورج بوش الأبن، من خلال شراء 85% من أسهم شركة التأمين، وبالتالي زالت مخاوف الإفلاس عن هذه الشركة، وما تبعها من بنوك مستفيدة من خدماتها، ولم تكن هذه هي الخطوة الوحيدة، بل قام المجلس الفيدرالي الأميركي، بضخ قروض وسيولة جديدة لعدد كبير من البنوك، وكذلك فعلت البنوك المركزية بأوروبا.

وبالتالي استعادت البورصة بريقها في فترة ليست بالطويلة، كما استطاعت هذه البنوك أن تلتقط أنفاسها، وإن كانت الآثار السلبية للأزمة المالية العالمية، ظلت مستمرة، بسبب ما تكشف بعد ذلك من انتشار القروض الرديئة، على مستوى الشركات، والدول، وما حدث بأزمة اليونان في عام 2010 كان خير دليل على الديون الرديئة للدول.

صيحات في الهواء

إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2008، أطلقت أصوات صيحات تتعلق بأمرين مهمين، هما: التخلي عن سعر الفائدة كقاعدة تمويلية، والمطالبة باعتماد نظام المشاركة، ومن هنا كانت فرصة لتفعيل قواعد التمويل والاقتصاد الإسلامي.

ولعل الأجواء الحالية لأزمة البنوك في أميركا وأوروبا، مواتية لإعادة المطالبة باللجوء للتمويل والاقتصاد الإسلامي كمخرج للاقتصاد العالمي من أزماته، ولكن ينقص الفكرة، أن تقف خلفها دول، أو مؤسسات كبيرة وليس مبادرات فردية.

أما الأمر الثاني، فكان يتعلق بالتخلي عن الدولار كعملة دولية للتسويات التجارية والمالية، والبحث عن بديل للنظام المالي الرأسمالي برمته، ولكن الإدارة الأميركية تصدت لهذه الدعوة في أول اجتماعات مجموعة العشرين بعد وقوع الأزمة المالية العالمية، وإن بقيت رغبة التخلي عن الدولار قائمة إلى الآن، ولكن لم يتم التوصل لبديل، ينقذ العالم من تحمل أخطاء وخطايا الإدارة الاقتصادية الأميركية.

ماذا بعد؟

فور وقوع الأزمة، خرج جو بايدن ليطمئن المودعين بضمن الحصول على ودائعهم وقتما يطلبونها، وأن تلك التعويضات لن تكون من أموال دافعي الضرائب، بل من الأموال التي تدفعها البنوك لشركات التأمين، وأرسل رسالة طمأنة للمواطنين بشأن سلامة وضع الجهاز المصرفي بالبلاد.

أيضًا أبلغت وزيرة الخزانة جانيت يلين، مجلس الشيوخ "بسرعة تحرك السلطات لحماية المودعين في بنكي سيليكون فالي وسيغنتشر" بعد أن رأت "خطراً جدياً بحصول عدوى" في القطاع المصرفي. كما قام مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بضخ 12 مليار دولار للبنوك، لتخفيف الضغوط بعد انهيار بنك سيليكون فالي.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

من هنا تبقى المصلحة، لا الأيديولوجيا هي من تسير الرأسمالية في أزماتها، وهو درس يجب أن تتعلمه كثير من الدول النامية التي تمر بأزمات، وتظل تقبل ضغوط المؤسسات الدولية بممارسة سياسات تضر بمواطنيها، وتخلق لها مشكلات كبيرة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.

قد تسفر الأزمة خلال الأيام القادمة عن بعض الآثار السلبية لأزمة البنوك في أميركا وأوروبا، وبخاصة في ظل تعقيدات التعاملات النقدية والمالية، ودور التكنولوجيا فيها، مما ييسر من أمر اتخاذ قرارات سحب الأموال، أو تحويلها.

لكن تبقى التكنولوجيا كأداة رأسمالية، حبيسة الدول التي تمتلكها، ويمكنها تطويعها، وفقما يقتضي الظرف، نعم ستكون هناك آثار سلبية وفواتير لا بد من دفعها، ولكن ستتدخل الحكومات على عكس ما تقضي قواعد الرأسمالية.

وختاماً، لقد ذاق العالم الويلات من الممارسات الرأسمالية خلال العقود الماضية، لكنّ الرأسمالية تمتلك عبر سلطتها السياسية التدخل في الوقت المناسب، وابتكار أدوات تخرجها من أزماتها، وإن كان الثمن تصدير الأزمات إلى باقي العالم.

المساهمون