ثقافة الكوارث

ثقافة الكوارث

18 سبتمبر 2023
من محيط أحد مساجد مدينة درنة الليبية بعد إعصار دانيال، 13 أيلول/ سبتمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

حلّت كارثتان على العالَم العربي مؤخّراً، إحداهُما في المغرب، حيث ضرب الزلزال مناطق الأطلس الجبليّة، وقضى على قُرىً بأكملها، ثمَّ حلّت الكارثة الثانية في ليبيا، حين جرفت مياه البحر والأمطار الهائلة أعداداً كبيرة من سكّان مدينة درنة، كما جرفَت معها جزءاً من مدينتهم. كما لم يمضِ وقتٌ طويل على زلزال تركيا وسورية الذي قضى فيه آلافُ الناس، في شباط/ فبراير الماضي.

هذه الكوارث طبيعية من ناحية، ومن صُنع البشر واختياراتهم من ناحية أُخرى. لكن ما أودّ التطرّق إليه هو معنى التعاطُف أمام هذه الأهوال، التي لا يُمكن أن تختزلَها لغةٌ أو تُجاريها كلمة. هذه الكوارث، والحوادث القِيامية التي تقضي على أعداد كبيرة من البشر، في أوقات قصيرة جدّاً، وتُخلّف دماراً على أصعدة مختلفة، مادّية وجسدية وبُنيوية ونفسية، تحلُّ حلول الزلازل على نفسيّات البشر. فماذا يبقى من الحياة لمن مرّ بتجربة كهذه تشملُ هلاك أُسرٍ بأكملها، ومعالم وأحياء كانت حتى وقت قريب مصدر وجود متكامل الأركان؟ هذه الزلازل والفيضانات وغيرها من الكوارث الطبيعية تجعلنا نفكّر في الإنسان الهشّ أصلاً حتى من دون رجرجات كونية حِياديّة كهذه، لا تُلقي أيّ اهتمام للبشر وخلفياتهم وأفكارهم أيّاً كانت.

ما كانت هذه المآسي لتقع لولا استرخاص الحياة البشرية في بلادنا

ولعلّ سؤالَ التعاطُف مع هؤلاء المنكوبين في أماكن كثيرة في العالَم العربي مُحيِّرٌ، أيّ أنّه ليس سهلاً. فكم انتكب العالَمُ العربي، وكم ينتكبُ ويتجرّع الويلات كلّ يوم لأسباب سياسية واقتصادية وأيديولوجية تكادُ لا تنتهي. هل بقي الأمر لزلازل وفيضانات وأعاصير ودرجات حرارة جهنّمية لكي تزيد المقهورين قهراً والمُعذَّبين عذاباً؟ لا إجابة عن هذه الأسئلة.

أحارُ من الكلمة الإنكليزية "إمباثي" (empathy) التي لا يُوجد لها مقابلٌ في العربية، وهي ذلك الإحساس بما يشعر به الآخرون ومحاولة الفهم، إن لم يكُن التماهي، مع شعورِهم ومآسيهم. ولكن هل ينضبُ خزّانُ "الإمباثي"، خزّانَ التعاطُف، والتعاطُف في الحقيقة كلمةٌ مُخجِلة. فماذا سيفعل التعاطف للمنكوبين الذين يبحثون بين الرُّكام والخراب عن أحبّائهم؟ ربّما لا شيء.

في الحقيقة، وبجانب المشاعر المائعة مثل التعاطُف والشفقة، والبكاء حُزناً وخجلاً وحُرقةً على هذه الكوارث والمآسي التي تُخلّفها، لا بدّ من الشعور بالسخط. هذا السخط الذي تولّده المعرفة بأنّ هذه المآسي ما كانت لتقع بهذا الحجم لولا الإهمال البشري، ولولا استرخاصُ حياة الناس في العالَم العربي. لا يحتاجُ الأمر إلى خبير، مع أنّ هذا ضروريٌّ، ليرى، حين يزور مناطق في بعض الدول العربية، بيوتاً وحارات سكنية تقطنُها أعدادٌ كبيرة من البشر، آيلةً للسقوط، ويلتهمها الفقرُ والعوزُ وقلّة الحيلة والتأخّر. حياةُ الإنسان العادي لا تُؤخَذُ في الحسبان، أو على محمل الجدّ في حسابات الحِيتان المتوحّشة. ولو كان الأمر كذلك، لمَا كانت أعداد الضحايا والدمار بهذا الحجم.

ولنا في اليابان المتقدّم في هذا الإطار عِبرةٌ، فهو بلد زلازل وكوارث طبيعية أيضاً، ولكنّ العامل السياسي والإنساني في بناء بيوت تُقاوم الزلازل ساعدَ كثيراً في تجنُّب مآسٍ كثيرة، بالرغم من حُدوثها بشكل متكرّر وشراسة الطبيعة هناك.

إذن، فلنتعاطف ولنتكاتف ولنعمل كما عمل كثيرٌ من المغاربة والليبيّين وغيرهم، الذين هبّوا لمُساعدة إخوانهم وأخواتهم المنكوبين والمنكوبات، ولنسخط ونغضب أيضاً على مَن يجعلون مِن شعوبهم معارض شفقة أمام العالَم بالإهمال العمراني وتجاهُل حياتهم، بحيثُ لا يعيشون في بيوت آمنة ومُحصَّنة من ويلات الطبيعة وزلّاتها التي لا يُمكن أن يتكبّرَ عليها أحد.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

المساهمون