عن تفرّدها

عن تفرّدها

04 فبراير 2015
من اليمين: زكريا أحمد وفريد الأطرش والقصبجي والست والسنباطي
+ الخط -

ليس خافياً التميّز الفني الذي خطته السيدة أم كلثوم في عالم الغناء. تميُّز وصل في مراحل عدة منه إلى التفرّد، ما جعل كوكب الشرق تشكّل مدرسة فنية قائمة بحد ذاتها؛ مدرسة فيها الكثير من مقومات المنهجية في فنون الأداء والتطريب والتنوع المقامي. ومع أن صاحبة هذه المدرسة تركت الأبواب مفتوحة لكل راغب في التعلم منها والاستمرار فيها، إلا أنها بقيت بلا تلاميذ.

مفهوم التلمذة هنا لا يعني الببغائية الغنائية؛ أي إعادة تقديم أغاني سيدة الغناء العربي بأصوات مطربين ومطربات عاصروها أو أتوا بعدها في حفلاتهم وتسجيلاتهم، بل يتعدّى ذلك إلى حمل روح تلك التجربة الطويلة والمهمة وبثها في أعمال جديدة تؤمن بصيرورة ما عُرف بـ"الغناء الأصيل".

في كتابه "الموسيقى العربية في القرن العشرين"، يشير إلياس سحاب إلى تفرّد الثنائي عبد الوهاب - أم كلثوم، معتبراً أن كل من أتى بعدهما في الغناء لا بد أنه ينتمي إلى إحدى المدرستين.

تبدو الفكرة مربكة بعض الشيء، ومتداخلة الأطراف من حيث التأثير. فإذا أتينا على ذكر كل من وردة الجزائرية ونجاة الصغيرة وميادة الحناوي، على سبيل المثال لا الحصر، فإلى إي المدرستين تنتمي كل منهن؟ حتى عبد الحليم حافظ، إلى أي مدرسة ينتمي؟

رغم صعوبة فضّ أي نزاع حول هذه المسألة، إلا أن الواضح هو بقاء أم كلثوم خارج السرب، إلى درجة يمكننا اعتبار أنها بقيت واحدةً (لا وحيدة)؛ وكأن حرصها الكبير ودقتها في انتقاء واختيار الملحنين الذين عملوا معها أفضى إلى ألا يرثها أحد يُسمى في ما بعد خليفة كوكب الشرق.

تتعدد الأسباب المؤدية إلى ذلك، حيث لعبت نشأة أم كلثوم دوراً كبيراً في تكوين شخصيتها القوية والجاذبة، كما كان صقل صوتها عن طريق أداء الآيات القرآنية عنصراً مهمّاً ليس فقط في حسن الأداء واللفظ، بل في تكوين الشخصية الفنية المتزنة التي طوّرت ذائقتها وحسّها التنبؤي في وقع وأثر الأغنيات التي قرّرت أن تغنيها بصوتها، على مستوى الشعر ومستوى اللحن. وقلّة هم الذين يضاهونها من هذه الناحية، منهم مثلاً صباح فخري، الذي تتلمذ على يد الشيخ عمر البطش، ثم شكّل مدرسة خاصة به في سوريا وحلب تحديداً.

هناك موسيقيون وباحثون تحدّثوا عن تفاصيل كثيرة يمتاز بها صوت أم كلثوم، وعملوا على تحليل حنجرتها وربما تشريحها إن صحّ التعبير، منهم الناقد كمال النجمي في كتابه "الغناء المصري"، والباحث اللبناني سليم سحاب. يقول الأول: "إذا تجاوزنا أقسام الصوت ومقاماته وجواباته إلى ذبذباته والنسبة بين مقاماته، ورخامته وصلصلته ونعومته وجزالته وجهارته وخفوته، رأينا إعجازاً فذاً، كأنه صوت مرسوم بطريقة هندسية يبهر من يراها ويسمعها في وقت واحد".

بينما يقول سحاب: "الأهم من مساحة صوتها هو التملك المطلق بهذه المساحة، فأم كلثوم بتملكها العجيب هذا، كانت تؤدي جملاً غنائية في غاية الصعوبة التقنية، وإلى جانب هذا فإن الزخرفات والتحليات الغنائية التي كانت تؤديها، كانت تصل حد الإعجاز. ولنتذكر في أغنية "يا ظالمني"، عند كلمات "عشان تعطف علي يوم" كيف تزخرف كلمة "عشان" بالارتجال على نغمة مقام الهزام".

ولكننا هنا لسنا بصدد تغليب العامل الفيزيولوجي الخَلْقي ورفعه إلى مصاف الإعجاز والقداسة. وربما من الجيد أن نستعين بما قاله فيها الملحن بليغ حمدي: "كانت واعية لكل التيارات الموسيقية والغنائية السائدة في تلك الفترة".

إنه الوعي الذي استطاعت تحويله إلى حالة ثقافية فنية عملية؛ أي لم يقتصر وجودها في أعمالها على تقمص دور تصريف الأعمال الموسيقية على المسرح، بل كانت شديدة الحذر في ذلك، حتى أن محمد عبد الوهاب قال: "كل جلسة نقاش في بيت أم كلثوم كانت بمثابة ندوة حقيقية وغنية"؛ أي أنها كانت تلامس عمق الفن في تلك المرحلة بشكل واعٍ، فحققت ما حققته من نجاح، وعرفت كيف تسير في خط متفرّد آنذاك، وهو ما جعل مهمة من جاء بعدها غاية في الصعوبة.

المساهمون