نشيد الأقنعة

نشيد الأقنعة

06 مايو 2014
مروان نحلة / لبنان
+ الخط -

فكّرت أنّ "الضّوء الأزرق" حدسٌ ما غريب، وفي السفر إليه، لا يجب أن أفقد "حسّي العادي" بما حولي، واخترعتُ تكنيناً مفيداً: أن "أكتم" أقصاي عمّن يحيطون بي، وأن أرتدي قناعاً يدعى "العادية"، ما استعطتُ إلى ذلك سبيلا، أي أن أتشبّه بـ"مركز الدائرة": "محيطها يلامس الهواء خارجها، ولكنّه مقفل، والمركز في بطن المحيط كالجنين في بطن أمّه، وهذا البطن قناع، أعطني من فضلك، ماذا؟ قناعاً آخر، قناعاً ثانياً!"، هكذا قال نيتشه.

وقرّرت أن "أستقيل" من عدّة عادات في حياتي: ألّا أسعى لأن أكون "الأوّل" في أي شيء، أو كقول غوته: "بنيتُ بيتي على العدم، ولهذا، فكلُّ الكون لي"، سيدعو الناس هذا "صعلكة"، وشذوذاً، وسينتبهون إلى كلّ ما هو "خارجي"، إلى قشوري، وعليّ زيادة القناع قوّة بأن أطيل شعري أكثر، وأرتدي صندلاً غير رسمي، وكلّ ما من شأنه أن يكون قشرة أخرى تُبعد الناس عن "مركزي" و"روحي": ملابسي، شعري الطويل، تشرُّدي، فظاظتي، وسيفكّرون ما يأتي على بالِهم، فليكُن، هذا نافع، هذا قناع ثالث، أعطني، أعطني، ماذا؟ قناعاً ثالثاً، من فضلك، قناعاً آخر.

وعليّ أن "لا أصارع الناس" في دنياهم، سأعزل نفسي في قوقعة من علاقات قليلة، مع بشر "استثنائيين" فقط، بأقل عدد ممكن، وسأتحوّل، كما تعلّمت من "طريق محارب مسالم"، من شخص استثنائي في عالم عادي إلى عادي في عالم استثنائي، وسأتجنّب أي صراع لا جدوى منه، سأتجنّب، كشبح لا يخرج من بيته إلا بعد منتصف الليل، ماشيا في الأزقة الخلفية، محاطاً بفيلات فيها كلُّها أضواء، وحفلات كوكتيل، وموسيقى مبتذلة، وجنس، وسياسة، وصراع على المناصب، وعواء، وكل ما أرجوه ألا ينتبه أحد لمروري، أعطني من فضلك، أعطني، ماذا؟ قناعاً آخر، قناعاً رابعاً.

سأُراكِم على وجهي أكبر قدر ممكن من الأقنعة، وتحت هذا كله، سأصعد إلى الضوء الأزرق عارياً، وحدي، ومن بعيد، حتماً، بقلبي، سأعرف طيراً أخرى تسري نحوى مسراي ذاته، طيوراً سأحييها من بعيد، سأقتل في نفسي كلّ حزن يكسر روحي، ويشكو من "وحدة الرحلة"، وأرقص، أعطني، من فضلك، ماذا؟ قناعاً آخر، قناعاً سادساً.

"نشيد أقنعة؟"، شعرت بأني فهمت لأول مرّة القصّة المشهورة عن النبي محمّد حين طاردته قريش فاختبأ في غار في الجبل، ومرّت قريش فرأت على باب الغار نسيج عنكبوت فاعتقدت أن "لا أحد هناك، في الداخل". قناع النبي كان "نسيج عنكبوت"، و"لا أحد هناك في الداخل"، أخفى الله وجه نبيه بنسيج عنكبوت، بقناع ما، ولم تدرك قريش أن "خلف النسيج" وجهاً، هذا خير الأقنعة: أن يبدو الوجه للخارج نسيج عنكبوت لا يرى عبره أحد إلا من سافر في صحبة الضوء الأزرق، وكان النبي في غاره "يتأمّل"، والتأمّل عبادته السامية، وزيّفوا هذا فقالوا "كان يتعبّد"، كي ينفتح الدرب للجهلة الذين لا "يتأمّلون"، جهلة تكاثروا حتى تدهورت الثقافة العربية الإسلامية، فاشتكى واحد من أعظم عقولها: الشيخ محيي الدين بن عربي، من تكاثر "المؤمنين"، وقلة "العارفين أصحاب الكشوف" في زمنه، ولكن لا، لا أقصد شيئاً، لا أعني، أسحب الآن كلامي، أعطني من فضلك، ماذا؟ قناعاً، قناعاً سابعاً.


* مقطع من "الضّوء الأزرق" [بيت الشعر الفلسطيني، الطبعة الأولى 2001]

المساهمون