غوته وحافظ.. سيرة القرابات اللامرئية

غوته وحافظ.. سيرة القرابات اللامرئية

29 مايو 2019
تمثال لغوته في معهد يحمل اسمه في برلين
+ الخط -

كثيرة هي الانتقادات التي تناولت الترجمة الألمانية التي أنجزها المستشرق النمساوي جوزيف فرايهر فون همر بورغشتال لأشعار حافظ الشيرازي، والتي صدرت عام 1814، وهي الترجمة التي كانت دافعاً وراء كتابة "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" للشاعر الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته. لم تكن الانتقادات هيّنة على الترجمة، لكن ذلك لم يمنع النص الشيرازي من الوصول إلى غوته الذي تماهى معه حتى أنه اعتبر حافظ توأماً له.

وكأنما وصل الشاعر الألماني (1749-1832) إلى الانتماء إلى الشاعر الفارسي (1320-1389) عبر شعور خفي من القرابة، وهو أمر قد لا يحدث إلا في الأدب، حيث نجد أثراً لتلك القرابات اللامرئية بين الكتّاب بعضهم البعض، كما بين القراء وكتّابهم. لقد صادفت قراءة غوته لأشعار حافظ وقوعه في حب جديد، فاجتمعت غزليات حافظ مع عشقه للمغنية والراقصة النمساوية ماريان فون فيلمر، ليصدر كتابه عام 1819.

مائتا عام مرت إذن على عمل شكّل نقطة تحوّل في الشعر الألماني، والأوروبي بحسب مؤرّخي الأدب ونقاده، وقد جاء في جزئين: الأول شعريٌّ في 12 فصلاً كتب غوته عناوينها بالفارسية وهي: كتاب المُغَني، وكتاب حافظ، وكتاب العشق، وكتاب التفكير، وكتاب سوء المزاج، وكتاب الحكمة، وكتاب تيمور، وكتاب زليخة، وكتاب الساقي، وكتاب الأمثال، وكتاب البارسي، وأخيراً كتاب الخُلد. أما الجزء الثاني، فهو تعليقات نثرية على الجزء الأول وعلى الثقافة الشرقية.

كان حافظ الشيرازي، المعروف بـ"لسان الغيب"، قد كتب غزلياته وخمرياته وصوفياته لخمسين عاماً من حياته في القرن الرابع عشر، جمعها كلها في ديوانٍ واحد أحد تلاميذه بعد عقدين من رحيله، ونُقل أول مرة إلى اللاتينية في القرن السابع عشر، ثم ظهرت في القرون اللاحقة ترجمات أخرى إلى عدة لغات.

وبعد أن نشر بورغشتال ترجمته بفترة وجيزة، بدأ المستشرق الألماني يوهان غوتفريد كوسيغارتن يحقق في دقته، ثم انضم إليه هينريش فريدريش فون دييز وآخرون وأدت هذه الانتقادات إلى ما يشبه المشادة المعرفية، اتهم خلالها المترجم بأنه قدّم نسخاً معيبة من غزل حافظ، وأصبحت هذه الصفة مثل لازمة ترافق كل دراسة أكاديمية تذكر ترجمته من قريب أو بعيد. ثم أصبحت هذه "الرداءة" باباً لحقل دراسات مختلفة حول قابلية حافظ للترجمة، وخصوصيات اللغة الفارسية، وغيرها.

كان غوته أحد المتأثرين الكبار بترجمة بورغشتال، لأنه لم يقرأها من زاوية نقدية مثل العارفين بالفارسية في ذلك الوقت. غير أن الباحثين تفحّصوا أثر الترجمة على سوء فهم غوته نفسه لحافظ، وهو مدخل أفضى ببعضهم للقول بأن الشاعر الألماني كتب الديوان بعبقريته الخالصة ولا علاقة لحافظ بالأمر.

وإن كان حافظ بنسخة بورغشتال هو حالة متطورة من سوء الفهم اللغوي، فهل يصح القول إنه لم يكن مؤثراً في غوته بهذا المعنى؟ قد يصح ذلك إلى حد ما، بالنظر إلى أن كتاب غوته ليس خلاصة تأثره بشعر حافظ وحسب، فقد اطلع أيضاً على كتاب سعدي الشيرازي، "كوليشتان"، ومصادر من أدب الرحلات منها رحلة إدوارد سكوت وارينغ إلى شيراز (نشر عام 1807)، إلى جانب تعلقه المعروف بالشرق (الهند) واطلاعه الواسع على الكلاسيكيين الكبار في الثقافتين الهندية والفارسية، ولا ينبغي أن نغفل أن غوته نفسه مترجمٌ، نقل نصوصاً عن اللاتينية والعبرية مثل "نشيد الإنشاد" وترجم بعض الآيات من القرآن، وترجم شيئاً من شعر المعلقات.

يُعتبر "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" إلى جانب "فاوست" أشهر عملين لغوته، والأكثر أهمية أيضاً، وكانت المتخصصة في أدب غوته كاترينا مموسن قد عقدت مقارنة بين الكتابين، فلاحظت الحب العميق في الديوان مقابل التشكك الكئيب في "فاوست"، لكن المؤلف في الكتابين كان يبحث عن الجوهر الحقيقي للوجود، وفي حين أن فاوست أبرم عقداً مع الشيطان في سعيه إلى الحصول على إجابة، ويبدو غوته وقد عثر في شعر الشيرازي على إجابة لسؤاله.

صدرت النسخة العربية من ديوان غوته بترجمة أنجزها عبد الرحمن بدوي، وضع لها مقدمة وعلق على القصائد فيها، لكن ترجمة بدوي لغوته لم تحظ بالنقد وإعادة النظر مثلما حظيت ترجمة بورغشتال لحافظ. الأمر نفسه ينطبق على ترجمة أخرى لإمام عبد الفتاح إمام صدرت ضمن كتاب "النور الفراشة".

لا يمكن القول إن بدوي أو إمام - بحكم تخصّصهما في الفلسفة - كانا موفقين في نقل شعرية نص غوته، إذ لا يعرف القارئ العربي لماذا يوصف هذا النص بأنه "إعادة تشكيل حاسمة في الشعر الأوروبي"، فمن الصعب أن نقرأ نص غوته بترجمته العربية فنقع في حبه، فهناك أشياء كثيرة تحول بين الذائقة العربية وبين الاستمتاع بالنص، فقد تكون هذه الترجمة أو تلك دقيقة لكنها ليست شعرية.

لكن حال حافظ أفضل من غوته بالعربية، فلدينا ثلاث ترجمات (على الأقل): الأولى أنجزها إبراهيم أمين الشواربي وقدّم لها طه حسين، والثانية بترجمة علي عباس زليخة، والثالثة ترجمة الشاعر اللبناني محمد شمس الدين، وربما تكون ترجمة الشواربي لـ"زهرة الشعر الفارسي" (بتعبير طه حسين) أعذبها.

في استعادة كتاب غوته بعد مرور قرنين على صدوره أوّل مرة، تقدّم دار النشر الإنكليزية "غنكو برس" نسخة جديدة تتضمّن ملاحظات تنشر لأول مرة، كثير منها يتعلق بنقد الترجمة.

عسى أن تكون هذه الذكرى مناسبة للتفكير في نقد الترجمات المكرّسة في تاريخ المكتبة العربية، باعتبار أن نقد الترجمة بات حقلاً معرفياً نشطاً ومفتوحاً على آفاق عدة منها اللسانيات ودراسات الأسلوب ودراسات التلقي وكذلك حقل الدراسات الثقافية، وضمنها التأريخ النقدي لتجارب ترجمة النصوص الكلاسيكية.

المساهمون