ما يؤسّسه المترجمون

ما يؤسّسه المترجمون

14 ديسمبر 2019
جان فوس/ ألمانيا
+ الخط -

اشتُهر الشاعر الألماني فريدرش هولدرلين بإيمانه القوي بالشعر، وبنظره إليه بوصفه من "القوى السماوية" الخارقة، بل آخر آياتها، وبقدرته على التأثير في مَعيش الناس؛ تلك هي اقتناعاتُه الساذجة، بل الفلسفة العملية التي يُفصح عنها هو نفسُه ببيته الشعري الشهير أيضاً: "ما يبقى يؤسّسه الشعراء"، بعدما يكون الباقون قد استنفدوا ما لديهم، بما في ذلك الفلاسفة.

والطريف في الأمر أنَّ هذا البيت اعتُمِد شاهداً شعرياً وإثباتاً فلسفياً من قِبل هايدغر، بل إنَّ أبياتاً أُخرى لـ هولدرلين حظيتْ باهتمام فلسفي كبير، وكذلك أشعار غيره من الشعراء، ولم يشذّ عنه تلميذُه الفيلسوف غدامير، الذي لم يتردَّد في التنويه به وبغيره من الشعراء، وفي أنْ يقول عن الشعر "رأيتُ في القصيدة القياسَ الملائم للإثباتات الفلسفية دائماً".

ولا يفوتنا التنبيه إلى أنَّ بيت هولدرلين الآنف قد اختُلِف في ترجمته إلى الإسبانية والعربية، وربما إلى باقي اللغات؛ حيث وردت كلمة "يبقى" في الترجمات بمعنى "يتبقّى" و"يستمر في الحياة" و"يدوم" و"يواصل الوجود"، وتُرجمت كلمة "يؤسّسه" بمعنى "يشيّده"، و"يبنيه" و"يُقيمه".

ويقدِّم لنا هذا الاختلافُ فكرةً عن التنوُّع الذي تتّسم به النصوص المترجَمة، وعن التوتّر الذي يعيشُه المترجِم وهو يعي حدّة ما يعايِنُه ويُعانيه أثناء تحرّكه بين علامات النص الأصل والنص المترجَم، أي بين قطبي العملية الترجمية، وما يترتّب عن عمله من لانهائية في التأويل الذي يخضع له الأصل، الذي لا يعرف الاستقرار على حال واحدة، لأنه يدخل في سيرورة من القراءات المتواصلة التي تُضيء باستمرار مداداً لم يُسلَّط عليه النور من قَبل، فنكتشف فيه جمالاً فريداً ومعنىً جديداً يمنحانه أبعاداً غير متوقَّعة، يتأكّد لنا بها أنَّ الفن هو ما يستمرّ.

ويكشف المُترجِم بذلك عن وعي نبيل، يؤسِّس به لتقليد معرفي يلتفت إلى المنجَز في التاريخ لتثمينه والتفكير فيه، أي ما يُعرَف بالاستذكار Rememoración، بحسب هايدغر، لأنه يَتوسَّل به بصفته وساطةً، أي نوعاً من التحدّي للنسيان الذي يُحدِق بالنص الأصل، وفي الوقت ذاته، يكون فِعلُه تحريراً للنص من جغرافيته، ودفعاً به في مغامرة جديدة.

وهكذا، يُرسِّخ المترجِمُ لدينا الاقتناعَ بأنَّ الترجمة الأدبية نشاطٌ إنساني، وأنها تُفصح عن نفسِها باعتبارها مُنجَزاً حاضِراً، لا تَفتأ تُحيِّن الأصل، وتغترف من بئر معانيه وروعة مبانيه، وبذلك تنجح بصفتها فنّاً - وجنساً أدبيّاً على حِدَة، حسب أُرتيغا إغاسيت، في أن تضمن لصرح الأدب الاستمرار والانتشار وتوسعة مجال تداوله، وفي تفعيل الاستهداف الأخلاقي، الذي عرَّفه بول ريكور بكونه "استهداف الحياة الجيدة مع الآخر ومن أجله في مؤسّسات عادلة".

في الحقيقة، ما يسعى المترجم إلى تأسيسه هو ضمان ديمومة العمل الأدبي، وهو طموحٌ يمرّ عبر الحوار الذي يخلقه المترجِم بين الأصل والترجمة، وهو حوار يَفهمُ النصَّ بصفته تلفُّظاً وأنه جوابٌ على سؤال يطرحه النص الأصل، لأن المترجِم يُقدّم جواباً نصّياً يُضاهي الأصل ويغدو سؤالاً أيضاً، لأنه عمل تأويلي بالضرورة، يقوم على فهم ما يُضمِرُه النص من سؤال، وعلى الحوار الذي يُعقَدُ معه.

وفي الوقت الذي يؤسِّس المترجِم داخل اللغة المضيفة للحوار بين ثقافتيْن، يُغْني الفضاء اللغويّ المُستقبِل بكلمات وعبارات وصور غريبة يقترضُها من أفضية لغوية مختلفة، ويُيسِّر هضمها لتُغذّي الثقافة المُضيفة، وذلك بفضل الدور التلقيحي الذي تنهض به الترجمة.

ويَسمح عمل المترجِم للنص الذي يكاد يتلاشى في موطنه الأصلي، نظراً لبقائه حبيس لغته وثقافته، بأنْ يُعاد إنتاجُه وكَوْثَرَتُه في معانٍ عديدة بفعل الترحيل الذي تخضع له علاماته اللغوية صوب الثقافة المستقبلة، فيصير ذا معنى لا نهائيٍّ بعدد الترجمات التي تُحوَّل إليها تلك العلامات ضمن اللغة المُضيفة نفسِها.

ولعلَّ أهمَّ ما يؤسّسُ له المترجِم هو ترسيخ ثقافة الإصغاء إلى الآخر، فالإنصات إلى الآخر اعترافٌ به وبما يَطرح من أفكار، وبإمكان التعلُّم منه أو تعليمه أو بناء مجتمع مشترك، أي مجتمع بابل المُفتقَد، والذي يطمح الإنسان إلى استعادته.

المساهمون