"هدوء نسبي": قلق الفرجة ورعب الواقع

"هدوء نسبي": قلق الفرجة ورعب الواقع

03 يونيو 2018
من العرض
+ الخط -

في كتابه "الأورغانون الصغير"، قدّم الكاتب المسرحي الألماني برتولد بريشت (1898-1956) نظريته حول المسرح، وفيها يعارض المفهوم الأرسطي، حيث يشدد على عنصر "الإمتاع" بصفته العنصر الرئيس في المسرح. وتطبيقاً لذلك، وضع عدداً من المسرحيات التي وإن كانت تطرح نقداً طبقياً شديد القسوة، إلا أنها تقدّم هذا النقد السوداوي في إطار لم يخل من الفكاهة والإمتاع البصري، والضحك. غير أن القائمين على مسرحية "هدوء نسبي" يراهنون على غير ذلك، كما يبدو.

المسرحية التي جرى تقديم عروضها مؤخراً في القاهرة وصفها بعضهم، على أعمدة الصحف، بأنها "أول مسرحية رعب في مصر"، كما وجد آخرون أنها تخوض مساحة من التجريب من حيث اعتمادها على ما يمكن تسميته بـ"جمالية القبح"، إذ تتشارك عناصر العمل في صنع حالة من القلق والرهبة، بل والنفور، بشكل مقصود من عمر المعتز بالله، كاتب العرض ومخرجه.

تدور أحداث العمل -إن جاز وصفها بالأحداث- في ديستوبيا؛ عالم مستقبلي موحش ومهجور، من خلال حياة أسرة (رجل وامرأتان) يعيشون في بيت متداع، مظلم وكئيب، يقتاتون على ذبائح نيئة، لحومِها ودمائها، في انتظار الموت. وخلال ذلك، تتعرّض شخصيات العرض - الذي يحمل عنواناً فرعياً هو "The metamorphosis" أي "التحوّل"- إلى حالة من الانمساخ. يرى المتفرج مرحلتها النهائية في انمساخ الرجل إلى خنزير بجسد رجل، وانمساخ إحدى المرأتين إلى كائن يصعب تصنيفه، فيما تخوض المرأة الثانية رحلة الانمساخ عبر ظهور نوع من البثور على بشرتها.

يعمل صناع العرض على تهيئة المتفرّج لهذه الأجواء منذ اللحظة الأولى وهو في الطابور ينتظر دوره لاقتناء تذاكر الحضور، حيث يبقى مكان العرض سراً لا يعلمه المتفرجون الذين يتجمعون عند نقطة انطلاق، قبل أن يصحبهم فريق إلى "المسرح" الذي ما هو إلا مكان مهجور فعلياً بشارع عماد الدين في وسط القاهرة.

هكذا لم نعد حيال مسرح، أو فضاء مسرحي بالمعنى التقليدي، حيث يشكل بيتٌ بطوابقه كلها فضاءً مسرحياً مفتوحاً، ومجهولاً بالنسبة للمتفرج الذي يُمنح "كمامة طبية" ومصباحاً يدوياً، مع إرشادات بطلب الخروج في حالة التعرّض لأية مشكلة!

وحين يُنهي المتفرّج صعوده إلى الطابق الأخير، حيث يقدّم العرض، يجد أن الشخصيات منخرطة أصلاً في عمل ما دون حاجة لإشارة بدء، حيث تقف السيدة التي ما زالت في طور الانمساخ وهي تعالج بقايا حيوانية في ما يشبه المعمل، قبل أن يأتي الممسوخ خنزيراً ليعبّ من دماء تتساقط في طست من عجل مذبوح.

بجانب ذلك، يستند العمل إلى حوار متفكك ومتشظ إلى حد بعيد، لعله أشبه ما يكون بحوار صامويل بيكيت في "في انتظار غودو"، حيث يبدو وكأن الشخصيات تخوض ذلك الحوار لا لشيء سوى لإزجاء الوقت أو للتخفيف من وطأة الانتظار. والانتظار هو محور الحوار نفسه، انتظار الموت بالخصوص والذي تراه الشخصيات منتظراً ومترقباً ولكنه لم يأت بعد، وفي الخلفية تطالعنا ملابسات هذه الحياة نفسها المنتظر إنهاؤها من قبل ذلك المترقب، حياة انغمست في أقسى درجات التوحش المتولد عن بلوغ درجة عظمى من "التحضر" المتوهم.

لذلك، يبدو هذا الشكل من الحوار هو الأنسب للتعبير عن هذه الحالة الشعورية من الاغتراب الناتج عن حداثة شيّأت الإنسان الذي "تزوّج بهاتفين" كما تخبرنا شخصية الرجل/ الخنزير، حتى انتهت به إلى "الحيونة" إذا استخدمنا مصطلح الكاتب ممدوح عدوان. وبالتالي، فإنه ما من صراع منتظر بين الشخصيات، فالحوار، الذي تجسّده بدقة طريقة أداء الممثلين غير الانفعالية أو العاطفية إطلاقاً - بشكل يشبه أيضاً شخصيات غودو- لا يوجد هذا الصراع الخارجي.

يتبقى إذن صراع داخلي، يتجلى ربما في التعامل مع هذه الحالة من الانمساخ، والترقب للموت الذي تخبرنا عنه الشخصيات أننا "إما أن نتحضّر أو ننتظر"، ولكن شيئاً لا يحدث، ثمة هذا السكون البيكيتي حيث تنعدم الحركة نحو أي فعل حقيقي قاتلة معها الزمن نفسه الذي لا يتشظى بقدر ما ينمحي وينعدم. ورغم أن الموت يأتي في الأخير خاطفاً الرجل، فإن شيئاً لا يتغير، فلحظة موته التي تعد إشارة -لا وجود لستار ختامي هنا- للمتفرّجين بالانصراف، لا تصل بالعمل إلى أي حل درامي، فالسيدة التي لم تنمسخ تماماً بعد تتعامل معه كتعاملها مع الذبيحة الحيوانية، معلقاً من قدميه بجنزير، حيث تبدأ في شحذ أسلحتها.

ثمة ما يلفت النظر كذلك في الإضاءة، فالمكان كله مظلم تقريباً، ليكون على المتفرج الذي يمتلك مصباحاً يدوياً أن يسلط الضوء على ما يريد أن يراه، لينتهي الأمر بمجموعات مختلفة من الإضاءة، والظلال بالضرورة، العفوية جداً والناتجة عن الرغبة في الرؤية، ليتحوّل المتفرجون إلى صانعي إضاءة ومحركين لبؤرة اهتمام هذه الإضاءة حسب رغبتهم الشخصية البحتة.

لذلك، وفي المجمل، تتفاعل عناصر العرض المسرحي من حوار وإضاءة/ ظلام، وموسيقى جنائزية، وأجواء محيطة -حيث تتساقط بقايا هدم من فتحات في الأسقف لتلامس بعض المشاهدين بالفعل- في زرع المتفرج داخل العمل بدنياً، وشعورياً، بإقحامه في هذه الحالة النفسية من الاغتراب والتوتر والقلق.

رغم كل ذلك، يبدو وصف العرض بأنه "عرض رعب" وصفاً غير دقيق، إذ لا يتعلق الأمر بإخافة المتفرج بقدر إشعاره بالقلق، إشراكه وجدانياً في أجواء النص، لأنه أصلاً شريك في هذا المصير والمستقبل المنتظرين، وهنا -وبالعودة إلى بريشت- لا مجال لأي "اكتشاف" أو تنوير، يريحان المتفرج، بقدر ما هو مطلوب الإبقاء على القلق وترك الإجابة للمتفرج نفسه، الذي لا يشاهد العرض من بعيد -كما في نظرية التطهير الأرسطية- بقدر ما يعيش العمل كمشارك حقيقي، عليه هو تقديم الإجابة.

العرض من تأليف وإخراج وسينوغرافيا عمر المعتز بالله، فيما يؤدّي شخصياته الثلاث كل من: سارة خليل، نورهان صالح، وأحمد الشرقاوي.

المساهمون