عن قرطاج الشعر في زمن اللاشعر

عن قرطاج الشعر في زمن اللاشعر

08 فبراير 2018
(من معرض "قرطاج.. نهاية حكم" لـ أرتور بيرسي)
+ الخط -

وأخيراً استقر رأي وزارة الثقافة التونسية بأن يكون للشعر مهرجانه، "قرطاج الشعري" ينضمّ إلى أشقائه قرطاج السينما وقرطاج المسرح وقرطاج الموسيقى والغناء وصولاً إلى أيام قرطاج للفنون التشكيلية.

قرطاج الشعري الذي تنظم فعالياته من 21 إلى 30 آذار/مارس القادم تزامناً مع اليوم العربي للشعر يلقي انعقاده بأكثر من حجر في مياه راكدة، ولكنها مسكونة بأكثر من سؤال.

للوهلة الأولى يبرز سؤال بديهي ولعله من تحصيل الحاصل مفاده أين يتموقع الشاعر اليوم في ظل حضارة استهلاكية مرقمنة انشغل فيها الناس بتدبير شؤون حياتهم وهذا ما يجعل وضعية الشعر والشاعر وضعية دونية مازالت تطاردها "اللعنة والإقصاء" منذ "أفلاطون" الذي أخرج الشاعر من "مدينته الفاضلة" فالشعراء زائدون عن الحاجة بل هم فاقدون لكل علاقة بالواقع وإن وجودهم خطر على سلامة المدينة.

أما في حضارتنا العربية الإسلامية فقد نعتهم القرآن الكريم "بالغواية" و"بالتهيام" وهم يقولون ما لا يفعلون.

وفى أيامنا الحديثة برز تيار أكثر خطورة وعدائية تجاه الشعر والشعراء حيث لم يتردد نقاد مثل تزيفتان تودروف وعربياً جابر عصفور عن إعلان تخلّي الشعر عن مجده للرواية، فالعرب في رأي عصفور يعيشون "زمن الرواية" بل هي قد أصبحت "ديوانهم" بعد أن كان وعلى امتداد أزمنة طويلة الشعر ديوانهم الأول وحجة وجودهم وتميزهم بين الأمم.

أما تودروف وقد رحل أخيراً كان أعلن صيحته التى وصلت إلى كل الأصقاع ومفادها بأن الأدب شعراً ونثراً في خطر بعد أن غيبت المؤسسة التربوية الأدب نثراً وشعراً فى مناهجها، معلية من شأن ما يقوله النقاد من خارج النصوص الابداعية من نظريات ومصطلحات ومسائل تنظيرية معقدة. فليس غريباً أن يحس الشاعر –إزاء هذا- بالغبن والظلم وهو يرى كيف أن نصوصه التي كتبها بروحه و دمه قد تحولت إلى أطياف سلبت منها نعمة الحياة على حد قول رشيد بنحدو معلقاً على صرخة تودروف.

هذا الشيء القليل من الكثير الكثير دون أن نغض النظر عن موقف المؤسسة الإعلامية من الشعراء وما يلقاه الشعر من لا مبالاة من دور النشر ومن المؤسسة الرسمية من وزارات الثقافة وغيرها مما جعل الشعراء يهرولون إلى كتابة الرواية باعتبار ما تلقاه من حظوة لدى الناشرين ولدى منظمي الجوائز المالية شرقاً وغرباً، علاوة على مجالات الدراما والسينما وقد أكدت إصدارات السنة الراحلة (2017) هيمنة الرواية مرة أخرى على الشعر.

بعد هذا وقبله فهل نعلن اليوم بأن الزمن الذي نحياه هو "زمن اللاشعر" وهل ما زال للشعر والشعراء مكانة في المجتمع وفي الحقل السياسي والفكري بصفة أعم.

هذه الاسئلة وغيرها دفعت خلال الأشهر الأخيرة مجلة "كاراكتار" وهى مجلة دولية فرنسية تعنى بالشعر لتنظيم استفتاء تاريخي شمل عدداً كبيراً من أبرز الشعراء والشاعرات المعاصرين يتعلق بآفاق الممارسة الشعرية وبعلاقاتها المعقدة بالراهن الاجتماعي والحيوي وبالعوائق الذاتية والموضوعية المحدقة بالشعر وبالحلول الممكنة لاستمراره.

ولعل من أبرز ما يمكن للقارئ العربي أن يستخلصه من أدبيات هذا الاستفتاء، التي لخصها الناقد والمترجم المغربي رشيد بنحدو، ما عدا بعض الاختلافات النوعية الطفيفة ما يلي:
إن هموم الشعر والشعراء في العالم هي واحدة وإن الأسئلة المطروحة حول أزمة الشعر وقلق الشعراء على مكانتهم الابداعية هو قلق عام يشترك فيه الشعراء شرقاً وغرباً.

هل يمكن بالنسبة لنا العرب أن يتخلى الشعر عن مكانته للرواية وقد عشنا أحقاباً طويلة على الاعتقاد بأن الشعر هو ديوان العرب؟

فهل غادر الشعراء من "متردم" و"عكاظ" و"مربد" وسواها من الاسواق و المهرجانات العربية المقامة إجلالاً و تخليداً له؟ هل يمكن للوعي العربي أن يتشكل بدون "المتنبي" و"المعري" و"أبي تمام" و"الشابي" و"نزار قباني" و"محمود درويش" وغيرهم؟
هل للشعر دور سياسي أم هو في حد ذاته أب السياسات؟

كيف يمكن للشعراء العرب أن يصمدوا اليوم أمام طوفان الرواية وانفجار "شعر النت" ومواقع التواصل الاجتماعي؟

هل سيظل التبخيس الاجتماعي يلاصق الشاعر لأنه لا يملك هوية اجتماعية على بطاقته الشخصية فهو ليس موظفاً أو طبيباً أو مهندساً هو شاعر فقط؟

ألا يخشى على الشعراء انضمامهم من حيث يدرون ولا يدرون إلى فئات المهمشين في ظل مجتمعات عربية لا تعترف بهم ولا تقيم وزناً لمشاركاتهم السياسية والمدنية، وبالتالي إخراجهم من دوائر صنع القرار؟

وأخيراً هل يمكن للإنسانية في حاضرها أن تستغني عن الشعر والشاعر... وهل يمكن أن نتصور مستقبلاً سوياً ومتوازناً لإنسان المستقبل من غير شعر؟

إزاء كل هذا هل يصمد الشعراء أمام طوفان الحيف والتحقير واللامبالاة أم سيهيمون على وجه الأرض كالدراويش؟

أسئلة أخرى كثيرة وخطيرة يمكن أن نجملها تحت عنوان واحد وكبير هو هل نحن نعيش زمن اللاشعر؟

ويبقى السؤال الأهم في سياقات قلق الشاعر: هل تقبل ثقافتنا العربية العريقة أن تتخلى عن الشعر، بصمة هويتها الأولى وصانع خصوصياتها وتقاليدها على مدى الأزمنة المتعاقبة وأهم إسهاماتها في الحضارة الإنسانية الخالدة.

* شاعر وأكاديمي تونسي

المساهمون