هشام روحانا: استضافة مصطلحات لاكانية

هشام روحانا: استضافة مصطلحات لاكانية

29 اغسطس 2017
هشام روحانا
+ الخط -

رغم تطوّر وتشعّب مدارس التحليل النفسي واتجاهاته، لا يزال فرويد مهيمناً على الكتابات النفسانية في العربية. من هنا تبرز أهمية صدور ترجمة عربية لـ"معجم تمهيدي لنظرية التحليل النفسي اللاكانية" لديلان إيفانس. "العربي الجديد" التقت، في حيفا، بمترجم الكتاب هشام روحانا.


■ من أين أتت الرغبة لترجمة كتاب "معجم تمهيدي لنظرية التحليل النفسي اللاكانية"؟
- تأتي هذه الترجمة استجابة لرغبة ذاتية ومحددة نشأت لدي عندما بدأت بالمشاركة في حلقات تعليم النظرية اللاكانية. لقد هالني النقص الشديد في النصوص المتعلقة بلاكان بالعربية. ومن ثم ازداد الإلحاح لديّ عندما بدأت بالتعرف على توظيفات النظرية اللاكانية في فروع خارج التحليل النفسي كالسينما والأدب والسياسة. ولقد ذهبت إلى هذه المهمة بتوكيل ذاتي وتلبية لرغبة ذاتية، فأنا لست مترجماً بالمهنة بل طبيب. وعليه فإنني أتفق معك أننا أمام فعل رغبة. والرغبة هنا هي رغبة بالمعرفة. نحن كشعب بحاجة إلى حركة ترجمة تفوق مئات بل آلاف المرّات ما هي عليه الآن. والنقص لدينا في الترجمة نقص شديد. وإنه لمن المتعارف عليه القول بأننا لن نستطيع التقدم إذا ما لم نترجم ونترجم ونترجم.


■ ترجمة أعمال وأفكار جاك لاكان من الفرنسية إلى لغات أخرى توصف كعمل متطلّب فكرياً ولغوياً، ما هي تحدّيات ومحاذير "استضافة" لاكان في اللغة العربيّة من وجهة نظرك؟
- عملت على ترجمة النص فترة طويلة، ترجمته مرة وأعدت قراءته مراراً وعدلته كلما تقدّمت معارفي في النظرية التحليلية نتيجة الدراسة كطالب في "مدرسة الشمال للتحليل النفسي اللاكاني" وعليه فإنه لا يشكل منجزاً أنجز دفعة واحدة بل على مراحل. ولقد أفردت مجهوداً كبيراً لكل مصطلح وآخر ولأوجّه توظيفاته وقد تمّ انتقاؤه هو بالذات من بين خيارات متعددة. خذ مثلا مفهوم (Symptom) والذي تجري عادة ترجمته إلى عارض ولكن اعتماد هذه الترجمة للمصطلح بمفهومه لدى لاكان لا تفيه حقه، لهذا اخترت أن أترجمه إلى عرض وهي الترجمة السائدة في المغرب العربي. لماذا؟ لأن العارض يشير إلى ما هو طارئ وخارجي دخيل يمكن التخلص منه بمعالجته كارتفاع الحرارة للمصاب بالحمّى مثلاً، بينما يشير لدى لاكان إلى ما هو أصيل قائم في بنية الذات غير قابل للتجاوز ولهذا فإنها ما تنفك تقدّم عروضها. في نفس الوقت وبما أنني قمت بالعمل بتوكيل ذاتي لرغبة ذاتية وجدتني غير مضطر للتقيد بتقيدات أجدها غير منطقية مثل هوس تعريب مصطلحات لا يمكن تعريبها. خذ مثلاً مصطلح "فالوس" والذي يترجمه بعضهم إلى "قضيب" ولا أجد أن هذه الترجمة تفيه حقه وخصوصاً في مفهومه اللاكاني المفارق لكينونته التشريحية، فمجال عمل الفالوس لدى لاكان هو النظام الرمزي والخيالي وليس واقعه التشريحي كقضيب أو عضو الذكورة. وهنالك أمثلة أكثر ضراوة. منها مثلاً مفهوم "إكستيمة" (Extimacy) وهي نحت لكلمة خارج (Exterior) وحميمية (Intimacy) والذي بواسطته تصير ثنائيات مثل داخلي-خارجي وحاوٍ ومحتوى ثنائيات إشكالية، اللاوعي هو مثال على هذا ذلك أنه لا يشكل لدى لاكان منظومة داخلية بالمطلق، بل هو منظومة بين ذاتية.


■ كيف تقارب أهمية هذا المعجم للمكتبة العربية؟
- في الحقيقة، إنني أرى أهمية خاصة لهذا المعجم بسبب الفحوى، وهذه أهمية غير متعلقة بترجمته إلى العربية أو أية لغة أخرى. فالمعجم قد يشكل ممراً ضرورياً للراغب بالاطلاع على تعاليم جاك لاكان. فكما تعلم غالباً ما يُتهم لاكان بأنه غير مفهوم وبأن لغته معقدة ويذهب الاتهام أحياناً إلى حد القول بأنه يفعل هذا قاصداً إبقاء أفكاره مقصورة على حلقة ضيقة من الناس. إلا أن المعجم الذي أمامنا يشرح ما يقارب المئتي مفهوم من المفاهيم المستخدمة لدى لاكان ويوضّح علاقات كل مفهوم بتعاليم فرويد وأحياناً بتعاليم محللين نفسيين آخرين وعندما تقتضي الحاجة فإنه يقدّم لنا سياقات تطوّر المفهوم نظرياً في علاقاته مع مجالات أخرى كالفلسفة وعلم النفس واللسانيات والأنثروبولوجيا. إن علاقات المفهوم التحليلي الموظف من قبل لاكان قد تختلف عن التوظيفات التي كانت له لدى فرويد، ومع أن لاكان أسّس نظريته المتفردة تحت شعار "العودة إلى فرويد" إلا أنه أسّس نظرية مختلفة إلى حد كبير عن نظرية فرويد، وهذا إذن سبب إضافي لأهمية هذا المعجم. والأمر الثالث هو أن المعجم يقدّم حقيقة شرحاً وافياً واضحاً ومفيداً للمفاهيم الأساسية لدى لاكان.


■ هل يكتسي هذا المعجم اللاكانيّ أهمية خاصة بالنسبة للقارئ العربي؟
- الإجابة على هذا السؤال هي ذات شقين. الشق الأول يتعلّق بالمختص، أي بالمحلل النفسي والمعالج النفسي وقد تكون له أهمية أيضاً للعاملين الاجتماعيين وسواهم. وهو يقدّم هنا مرجعاً دراسياً أساسياً لنظرية لاكان. وسيتخذ بنظري مكانه إلى جانب "معجم مصطلحات التحليل النفسي" لكل من لابلانش وبونتاليس والذي ترجمه إلى العربية مصطفى حجازي. هذا بالنسبة للمختصّ، أما بالنسبة للقارئ العربي فإنني أرى أن الأهمية مضاعفة. وقبل أن أفصّل، أود أن أحذّر بأنه قد يكون من الخطأ النظري تعميم مفاهيم قد تكون سارية على مستوى دراسة الذاتية الفردية، وإحلالها في وعلى دراسة العمومي-الاجتماعي.
بالنسبة للعربي فإن مقدسّهُ القائم كلغة تأمرُه أن "اقرأ"، فيضعه مباشرة في اللغة. هنا نلتقي مع واحدة من ميزات لاكان أي ما قد سمي بـ"الانعطافة الألسنية"؛ ذلك التركيز الذي يضعه على اللغة ليس كبنية رمزية تضبط قوانين التبادل الاجتماعي فحسب، بل أيضاً بوصفها بنية اللاوعي ذاته، زد على ما لها من بعد في الخيالي. واللغة لديه ليست الوعاء الذي يقذف إليه الإنسان بل هي الوعاء الذي يُصيره إنساناً.


■ هل ثمّة مفاهيم لاكانيّة يمكن تشغيلها نقدّياً في فهم الكينونة العربيّة أو من شأنها أن تضيء مساحات ملتبسة في الذات الجماعيّة العربيّة اجتماعيّاً وسياسيّاً؟
- الأمر الذي أرى أنه ذو أهمية خاصة لهذا القارئ، هو مفهوم الأب لدى لاكان مقابل محللين نفسيين آخرين. ويتوزّع مفهوم الأب لديه ويشتبك أحياناً بمفهوم خاص به وهو "اسم الأب" و"الوظيفة الأبوية". لقد أعاد لاكان إلى الحلبة المكونة للنفسية لدى الطفل مفهوم الأب بعكس نظريات أخرى وضعت علاقة الطفل –الأم باعتبارها العلاقة الأساسية. بالنسبة له فإن الأب قائم كمفهوم ثالث يتوسّط ويُرشِّد هذه العلاقة فيخرجها من المستوى الخيالي، ويدّعي لاكان بأن للأب وظيفة أساسية بل هي الوظيفة الأساسية التي تحمي الطفل من الذهان (Psychosis) وتتيح له دخول الحيز الاجتماعي. غالباً ما تم نقد المجتمع العربي بوصمه مجتمعاً أبوياً بطريركياً وأعتقد أن هذه المقاربة اللاكانية لـ"الوظيفة الأبوية" ضرورية لإعادة تقييم دور الأب في المجتمع العربي والتساؤل حول ما ترتب عن توظيفات مفاهيم كمفهوم "المجتمع البطريركي" و"الأب البطريركي" والمأخوذة من علم الاجتماع والموظفة مباشرة في غير مكانها. وسنستطيع بواسطة هذا المفهوم ومفاهيم أخرى وضع بعض المسلمات تحت المساءلة والنقد. آخذين بعين الاعتبار أن هذه المفاهيم النقدية ذات الصلاحية على مستوى نقد بنية المجتمع ككل قد تكون غير ذات صلاحية لبنية الذات الفردية والعكس بالعكس.


■ إذن نحن أمام معجم للمفاهيم النقدية؟
- بالفعل تستطيع أن تسميه دليلاً وليس معجماً، إنه دليل للمفاهيم اللاكانية التي يمكن توظيفها نقدياً في مجالات خارج نظرية التحليل النفسي. ومع أن لاكان عارض مثل هذا التوجّه قائلاً بفقدان صلاحية نظرية التحليل النفسي خارج العلاقة التحليلية النفسية أي علاقة المتحلل-المحلل، إلا أن بعض الاتجاهات واسعة الانتشار في النظرية النقدية المعاصرة سارت بعكس هذا وصارت تعتمد على مثل هذه القراءة لمفاهيم لاكانية يتم توظيفها في مجالات خارج التحليل النفسي؛ كالنقد الأدبي والنقد السينمائي والنقد النسوي.


■ هذا أمر مثير للاهتمام حقاً، فأنت تجد توظيفات لمفاهيم لاكانية في مجالات مختلفة، هل تستطيع أن تذكر لنا بعض هذه المفاهيم؟
- خذ مثلاً مفاهيم مثل "مرحلة المرآة"، أو "النظرة المحدقة"، أو "الذات المتشظية"، أو "الآخر الكبير" فإنها تشكل مفاهيم أساسية في النقد السينمائي الجذري والذي تعتمد عليه كل من الناقدة لورا مالفي (Laura Mulvey) و باولا ميرفي (Paula Murphy) إضافة إلى ما بات يسمى "نظرية المشاهد" بدءاً من ميتز (Metz) ووصولاً الى كوي (Cowie) التي ترى في المشاهد "ذاتا من أجل النص السينمائي/ وصنيعته". ولقد ترجمت ونشرت بعضا من هذه النصوص الأساسية لهؤلاء النقاد في الصحافة المحلية هنا في الداخل. وذكرت سابقا مفاهيم إضافية مهمة لحقل السيمياء والألسنيات.


■ قد يكون السؤال الأخير كبيراً ومفتوحاً على أسئلة كثيرة أخرى، بعد الانتهاء من هذا العمل الذي يمكن وصفه بالتنويري، ما هي أهميّة الخطاب التحليليّ في المجتمع العربي؟
- نعم. هذا سؤال كبير ومفتوح فعلاً، وأعتقد أن الإجابة عليه تحتاج ليس إلى ندوة بل ندوات. ما أستطيع قوله هنا هو أن الخطاب التحليلي رغم انتشاره المبكر نسبياً وترجمته، بقي محاصراً من قبل الثالوث المحرم: السياسة والجنس والدين، ليبقى في برجه العاجي تتناوله القلة القليلة. وعلينا أن نتذكر هنا أن هذا الخطاب يأتينا من الغرب وصُوّر للعامة بأنه يدور حول الجنس والعلاقة المحظورة داخل المثلث الأوديبي. لهذا فإنه يبقى كممارسة نفس تحليلية خارج متناولية الجمهور الواسع ليس فقط بسبب الأحوال المادية بل وأيضاً بسبب المعتقد الشائع. ولهذا فإنك سوف لن تجد هذه الممارسة على قلتها إلا لدى بعض الفئات الاجتماعية الوسطى في المدن الكبرى، بينما يذهب عامة الشعب إلى معالجة النفس لدى العرّافين والشيوخ. واقتصاره على هذه الفئات الاجتماعية المرتبطة في كثير من الأحيان بممارسات وعادات غربية أوروبية يزيد من عزلته. ويتصل الأمر في رأيي اتصالاً وثيقاً أيضاً بشيوع الثقافة الفردانية، أي بنظرة الشخص إلى ذاته ذاتاً متفردة مستقلة. وهذا أمر مركب يتصل بالبنية الاجتماعية الاقتصادية وللمتوارث الديني الثقافي. وقد تبقى هذه الممارسة متعثرة ما دامت الأحوال كهذه.
لكن سيرورته كخطاب نقدي عام مختلفة، حيث أرى أن عليه أن يلعب دورا نقدياً وتثويرياً كبيراً. وأرى أنه في شقه اللاكاني وللأسباب التي ذكرتها سابقاً سيتبوأ مكاناً مُهماً في نقد الواقع العربي الحالي. ولن نستطيع تفسير ما نشاهده من ظواهر اجتماعية وسياسية شديدة الضراوة والشذوذ بالاعتماد على ما اعتدناه من براديغمات أحادية الجانب فنحن نحتاج إذن إلى النظر في التقاء الاجتماعي والاقتصادي والنفسي والتاريخي.

دلالات

المساهمون