عادل غنيم.. في مسالك المؤرّخ القومي

عادل غنيم.. في مسالك المؤرّخ القومي

03 يوليو 2017
تمثال طلعت حرب في القاهرة، تصوير: أحمد إسماعيل
+ الخط -

ازدحم المجال البحثي والتأريخي منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بالمؤلفين القوميّين، وكان لذلك فائدة في اتساع دائرة التنظيرات الخاصة بالدولة والاقتصاد والسياسة، وذلك كان ذا فائدة أيضاً لكي يختبر القوميّون رؤاهم، وإن ساهمت هذه الاختبارات في تحوّل الكثيرين منهم إلى انتماءات فكرية أخرى.

عادل غنيم الذي رحل عن عالمنا منذ أسبوعين، كان من أبرز هؤلاء المؤرخين القوميين الذين كرّسوا جهودهم البحثية من منطلق انتمائهم الأيديولوجي والسياسي، وإن بدا هذا الإخلاص قد شهد صعوداً وهبوطاً نتيجة الانشغال بالتطوير النظري للأفكار القومية التي عرفت من جهتها نوعاً من الخمول الفكري على مدار سنوات - في مصر على الأقل- حتى بدت في شكل حركة تستدعي خطاباً عالي الصوت دون أثر واضح على مستوى التطبيق.

خلال تأبين غنيم، وسمه وزير الثقافة المصري حلمي النمنم بـ" شيخ المؤرّخين" وفي الحقيقة كأن الوزير أراد أن يقول "شيخ المؤرخين القوميين" ثم أسقط التوصيف الأخير، فمختلف مشتقات كلمة القومية باتت نافرة في هذه المرحلة، وقد يكون للأمر خلفيات أخرى في ظل الوضع اليوم في مصر وما تشهده من تجاذب بسبب قضية جزيرتي تيران وصنافير، فضلاً عن اتساع بؤرة الصراع الطائفي في المنطقة العربية بشكل عام، والذي يبدّد فكرة الوحدة الوطنية الوثيقة الصلة بالقومية العربية وتنظيراتها.

على مستوى التأليف، يمكن القول إن غنيم كان ماركسياً قومياً، وهذه الحالة من المزج بين الماركسية والقومية ليست حالة غريبة في مصر بل وفي العالم أجمع، وإن بدت للبعض جمعاً بين مدرستين فكريتين متعارضتين، فالماركسية ترى أن الصراع قائم بين الطبقات، وتقول بفكرة الأممية، بينما ترى القومية بأن العالم ليس مقسّماً إلى طبقات وإنما إلى قوميات.

من جهتهم، يقول الماركسيون القوميون، ومنهم غنيم، بأن الصراع الطبقي هو التهديد الراهن للقومية العربية لأن ذلك الصراع يهدّد الوحدة الوطنية؛ لبّ انشغال النظرية القومية.

بدا غنيم في أشهر أعماله "أزمة الدولة المصرية" (2005) قومياً راديكالياً يحلل الأزمة السياسية والاقتصادية التى عانتها مصر في الفترة من 1991 إلى 2002، وهو تحليل نجد أنه ما زال ينطبق على الوضع في مصر اليوم؛ من استمرار المركزية والبيروقراطية وتوحشهما، واستمرار إطار الدولة البوليسية التي تلعب فيها الشرطة دوراً رئيسياً في إدارة أزمة النظام السياسي، فضلاً عن "مركزية السلطتين السياسية والإدارية واندماجها العضوي أي توحّد الحكم والإدارة، وهذا هو الأساس لاحتكار البيروقراطية للسلطة".

يقول غنيم في كتابه: "الدولة المصرية دولة استبدادية أبوية حديثة قائمة على الحكم الفردي الأبوي الذي يفرض وصايته على الشعب فيجرّده من أبسط حقوقه وحريته الديمقراطية وتحتكر البيروقراطية سلطة التصرّف في جانب معتبر من الفائض الاقتصادي باسم "التحديث" و"حماية غير القادرين"، فضلاً عن كون أزمة الطائفية أزمة الدولة المصرية ذاتها".

الكتاب يتضمّن جرعة مكثفة في كشف هيمنة البرجوازية الحاكمة، وفيه انتقد أحزاب الطبقة العاملة ودور المثقف العضوي وعجزه عن قيادة الشعب، وطالب المثقفين المصريين بـ"اعتبار قضية الديمقراطية معركة حياة أو موت تضعهم مع العمال والفلاحين في خندق واحد لتصنع منهم كتلة تاريخية جديدة".

هنا يستعير المؤرخ المصري مصطلح المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي، والذي تربطه بعمله علاقة متينة باعتباره مترجم أشهر أعماله "كرّاسات السجن"، وكان طموحه في هذا المشروع نفض الخمول عن الفكر القومي الماركسي وقياداته داخل الأحزاب، باعتبار أن غرامشي مجدّد للماركسية بعد لينين.

كتب غنيم في مقال له بعنوان "لماذا غرامشي؟" (صحيفة "القاهرة"، 1994): "بات إحياء التراث التجديدي للفكر الماركسي ضرورة ملحة، وذلك بترجمته ونقده، أي اختبار مقولاته في واقعنا الحالي، من خلال الممارسة النظرية والعملية لتغييره".

ورغم هذا الطموح الذي عبّر عنه غنيم في إمكانية بناء أفق لتجديد الفكر الماركسي القومي في مصر إلا أنه يمكن تسجيل تفاوت بين طموحه النظري وممارسته العملية. كان غنيم قد اعتبر في كتابه "أزمة الدولة المصرية" أن الأزمة الحقيقية للدولة في مصر هي أزمة المنظومة التي لا تتورّع عن استغلال كل مؤسساتها لترسيخ دعائمها ومن بينها مؤسسات الإعلام والثقافة، وأورد أمثلة كثيرة على ذلك كمؤسسة "جريدة الأهرام" و"المجلس الأعلى للثقافة"، إلا أنه وبعد سنوات من صدور كتابه الأبرز وافق على تعيينه عضواً ثم رئيساً للجنة التاريخ في "المجلس الأعلى للثقافة" ليوافق على عقد ندوات سياسية تاريخية تتماهى مع سياسة الدولة التي تعتبر الإعلام والثقافة بعضاً من أذرعها ومن بين تلك الندوات "تاريخ الإرهاب عبر العصور" و"6 إبريل في الميزان".

رأى عادل غنيم أن الدولة البرجوازية القومية المعاصرة "أضحت مهمّتها التاريخية إدارة أزمة النظام الرأسمالي، بعد أن عجزت عن حلها". ولكن مسيرته، تشير إلى حالة يكون فيها منتقدو هذا الوضع في النهاية جزءاً من إدراة الأزمة، بعدما عجزوا عن مواجهة من يقمعها.

المساهمون