تودوروف في فخّ أحلامه

تودوروف في فخّ أحلامه

09 فبراير 2017
تودوروف، تصوير: ميغيل ريوبا (2008)
+ الخط -

غادر تزفيتان تودوروف (1939 - 2017) بلغاريا إلى عاصمة الأنوار مطلع ستينيات القرن الماضي التي كانت تعيش تياراتها الفكرية والاجتماعية ذروة تحرّرها وحداثتها، هارباً من حكم شمولي أسّس لهويةٍ واحدة وأيديولوجيا مطلقة، فانطلقت مغامرة بحثه الأولى عن وحدة الشكل والمضمون في الأدب.

يُمكن أن نتتبّع أكثر من مستوى لهروبه؛ إذ نفَر من "أشكال الدعاية" التي كانت تغلّف خطابات أبرز المشتغلين في الثقافة الفرنسية الذين زاوجوا بين الفكر والنقد وبين العمل في الإعلام والشأن العام، والمضي أبعد نحو علمنة النص الأدبي استناداً إلى قراءات مختلفة في الرواية الكلاسيكية الروسية تحديداً، وسعيه إلى تجديد مناهج النقد لتواكب تطوّر الأدب وأجناسه.

في تلك المرحلة، افتتن تودوروف بغربٍ عقلاني قاده إلى اتّخاذ مواقف ظنّاً منه أنها تنسجم مع تلك "العقلانية" مثل تأييده الحرب الأميركية في فيتنام، الذي تراجع عنه في فترة متأخّرة – نسبياً - رافضاً جميع أشكال هيمنة الولايات المتحدة على العالم.

في نهاية السبعينيات، يبدو أن صاحب "نقد النقد" قد وصل إلى طريق شبه مسدودة جعلته يعود مرة أخرى إلى الواقع وخطاباته بوصفها إحدى المرجعيات الأساسية للأدب، ولم تأت هذه الخلاصة قطعية إنما تشكّلت نتيجة تأملات ومراجعات طويلة ذات صلة بالسياسة ومتغيّراتها التي لم ينج من تأثيراتها رغم محاولاته الدائمة للابتعاد عنها.

واصل هروبه صوب "روح الأنوار"، وبدأ يحفر في كتابه ذاك عن طبقات الثقافة و"خلاسيتها" التي تُنتج هوية متعدّدة ومتبدّلة بالضرورة، لينتهي إلى إدانة الممارسات الأوروبية للأساس العقلاني الذي قامت عليه حقبة التنوير عبر تبريرها الاستعمار، وإلى حتمية استعادة جذرية العقل وقبول الاختلاف الذي يعدّ جوهر ذلك العصر.

مرّة أخرى، يمضي تودوروف إلى حلم جديد ممثّلاً بهوية أوروبية قائمة على التعدّد واحترام الآخر "تخلّصها من وحشيتها" التي تجلّت في "غزو أميركا"، حين وهبت الدين لـ"العالم الجديد" وأخذت مقابله الذهب.

قام صاحب "الخوف من البرابرة" بتفكيك زيف الادّعاءات وراء التدخّلات الأميركية في العالم، واعتبرها أصولية جديدة باسم "الديمقراطية الليبرالية"، داعياً مقابل ذلك إلى تظهير وحدة أوروبية قائمة على العقلانية والعدالة والديمقراطية والحرية الفردية والعلمانية والتسامح، لكنه وقع في "فخّ" أحلامه ثانيةً حين دعا إلى تأسيس قوة عسكرية موحّدة لكلّ أوروبا على أن تكون "هادئة"، وتقوم بالتدخل لحماية شعوب الأرض من إبادة جماعية أو وقوع عدوان عليها.

"التدخّل الأوروبي الإنساني" الذي طالب به تودوروف في كتابه "اللانظام العالمي الجديد" يذكّر بالخطاب الأميركي لتسويق تدّخلاته بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

عقب هذه التصوّرات المتفائلة، تسارعت الأحداث داخل القارة العجوز، حتى أتى اليوم الذي صُدم فيه صاحب "الأمل والذاكرة" بقرار إنشاء وزارة للهجرة والهوية الوطنية في فرنسا التي ظنّ أنها مخلّفات تخصّ الأنظمة الشمولية وحدها.

حاول التمسّك بـعقلانيته "المتعدّدة" حتى النهاية، مستنكراً تحميل "تطرّف" المسلمين لأسباب دينية، عبر البحث في اضطرابات الهوية لدى أبناء المهاجرين في أوروبا والتركيز على الفوارق الطبقية والمعيشية كعوامل أساسية، مقارناً بين استخدام الشيوعية للماركسية كأيديولوجيا وبين استعمال الحركات المتطرّفة للإسلام في الإطار ذاته.

عاش تودوروف طوال حياته الهروب من "جحيم" الأيديولوجيا وثنائياتها في تفسير الواقع ومتغيّراته الحادّة، غير أنه ظلّ أسيراً لمقاربة حالمة تفترض "مثالاً" يُمكن القياس عليه، والاختباء وراء "معاييره".

المساهمون