جمال عمر.. عودة هادئة إلى نصر أبو زيد

جمال عمر.. عودة هادئة إلى نصر أبو زيد

29 نوفمبر 2017
(في جوار الأزهر، القاهرة، 2017 ، تصوير: محمد الشاهد)
+ الخط -

بعيداً عن حالة التّشنج التي تتلبّس استدعاء شخصية نصر حامد أبو زيد (1943 -2010) وأفكاره التي عانى منها الرّجل في حياته؛ جاءت محاضرة الباحث المصري جمال عمر مؤخراً في "منتدى الدين والحريات" الأسبوع الماضي في القاهرة تحت عنوان "نصر حامد أبو زيد ونقد الوسطية الدينية". وفيها يستدعي عمر أحد المحاور المهمة في فكر أبو زيد، وهو فكرة "الوسطية الدينية" التي تحرّكها الأنظمة الحاكمة وتصنعها وتستغلها لتنفيذ سياساتها.

الوسطية الدينية عند أبو زيد بنية اجتماعية وفكرية تشكلت عبر الزمن، وهي خطاب يعاد إنتاجه طوال الوقت، ذلك ما حدث في الماضي ويحدث اليوم وسيحدث مستقبلاً. وقد وصفها بأنها التيار الديني الرسمي في الدولة، وهو ما تريده الأنظمة دائماً وتتلاعب به حسب مسار التاريخ.

في مشروعه الفكري ركّز أبو زيد على عمل الشافعي والأشعري حول مرجعية الكتاب ثم السنة، أي مرجعية النصوص، واحتكار الوسطية الدينية، الممثلة في مؤسسات الدولة الدينية، التعامل مع هذه النصوص وتأويلها، والسيطرة على الجماهير بواسطة الفتوى.

وَسَطية لكل عصر

تحدث جمال عمر عن "الوسطية الدينية" التي برزت في المجتمع بوصفها "سلطة"، وكيفية دورانها مع التطوّر السياسي والحكام، ومثّل لذلك بمصر في القرن العشرين، وانتقالها من اشتراكية الإسلام، في الخمسينيات والستينيات، المتحصنة بتأويلات النصوص التي تتحدث عن المساواة بين البشر، إلى سياسة الانفتاح، في السبعينيات، وتأصيلها دينياً، والتمترس خلف تأويلها الخاص لنصوص أخرى مثل الآية "وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ"؛ وكيف أن الفوارق الطبقية التي كانت مرفوضة سابقاً أصبحت قَدَراً إلهياً لا بد من الإذعان له باعتباره ناموساً سماويّاً.

وهكذا انتقلت الوسطية بصحبة الموقف الرسمي للدولة من الحشد ضد إسرائيل زمن الحرب (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ...)، إلى زمن معاهدة كامب ديفيد و(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا).

تناول عمر أيضاً رؤية أبو زيد لهذا التحوّل ودلالاته، وكيف نظر صاحب "نقد الخطاب الديني" إلى عمليات تأويل النص، ومحاولته وضع مفهوم موضوعي للنص خارج التحيّزات الأيديولوجية؛ بعد سؤاله: هل يمكن تكوين تصوّر للقرآن خارج التوظيف الأيديولوجي والتحيّزات الموجودة عند القدماء والمحدثين؟

سلطة النصوص

وفقاً لعمر، تحدّث أبو زيد في كتبه عن موضوع ماهية القرآن ودراسة الخطاب الديني المعاصر، فوضع تحليلاً لخمس آليات يتبعها الخطاب الديني ويختلف فيها التيار الإسلامي ويتفق، وأيضاً وضع مُنْطَلقَيْن لأفكارهم يشتركون فيهما جميعاً، وهما: الحاكمية وسلطة النصوص.

يؤكد المحاضر أن أبو زيد انتقد الاستبداد السياسي وعلاقته بالخطاب الديني الذي يتبناه الأزهر الذي يروّج لتركيب فكري يعبّر عن انحيازات اجتماعية وسياسية واقتصادية، تتوافق دائماً مع الأنظمة الحاكمة المتقلبة، موضحاً أن المباحث التي عمل عليها أبو زيد ليست دراسة تقليدية في أصول الفقه، ولكنها دراسة لأصول التفكير عند الفقهاء مثل الشافعي، وكيف حاول الشافعي بناء توسط بين أهل الرأي وأهل الحل، أي بين الفقهاء والسلطة، ووضع لذلك مجموعة من المبادئ، قام بوصفها وتحليلها.

مأسسة السُنّة

يشرح عمر رؤيةَ أبو زيد للسنة وماهيتها، ويصفها بأنها ليست ما نستخدمه الآن عندما نطلق "المصطلح"، فالشافعي توسّع في تقرير مفهوم السنة حتى جعلها تقيِّد تفسيرَ القرآن، بالإضافة لتوسيعه مفهوم السنة واعتبارها وحياً، واستند إلى مفهوم الحكمة المذكور في القرآن وجعله مرادفاً للسنة، وأنها إذا كانت وحياً فبإمكانها أن تستقل بالتشريع، متسائلاً: إذا كانت السنة وحياً، وكان الاهتمام بتدوينها ونقلها له هذه المكانة الكبيرة عند الفقهاء القدامى والمحدثين؛ فكيف اهتم علماء الحديث ورواته بتدوين كل ما قال وفعل وحدث وسكت عنه النبي، حتى داخل بيته وفي أدق حالاته مع زوجاته وأسرته، ولم يدونوا خطبَ الجمعة التي ألقاها النبي على المسلمين، رغم أنها خطاب عام وليس خاصاً، وفيها تقرير للحُكم ورسم للسياسات، رغم أن النبي استمر في خطب الجمعة بالمدينة لسنوات طويلة منذ قدومه إليها، ولا تجد في أي كتاب للحديث خطبة للنبي.

يقول عمر أيضاً: "إن القرآنَ بطبيعة معانيه مجازيةٌ وحمالُ أوجه، ولا تستطيع أن تأخذ منه "افعل" أو "لا تفعل" بصورة قطعية، والمسلمون ساروا على القرآن وحده مئة عام دون إلمام بالسنة كما دوّنها مالك في "الموطأ" لاحقاً، لكن السلطة السياسية أرادت توحيد الناس خلفها على خط واحد كما هي طبيعة السلطة دائماً، والمعروف عن السلطة أنها تكره التنوّع والتعدّد، لذا فقد أخذ الحُكّام فكرة السنة وكتب الفقهاء كي يلزموا بها القضاة، رغم إقرار الفقهاء مثل مالك والشافعي أن كتاباتهم ترتبط كثيراً بأماكن تأليفها، وتختلف أحكامها من مكان إلى آخر".

استخدامات القياس

تناول جمال عمر أيضاً مسألة القياس - استلهاماً من فكر نصر أبو زيد - وكيف تحوّل لمجرد آلية لاختلاق مبررات للمستجدات، حتى لو كانت مخالفة لأصل الدين، وكيف استمر ذلك حتى العصر الحديث، مستدلاً بفتاوى جواز الاستعانة بالأميركان في الحرب ضد عراق صدام حسين، وكيف بحث علماء السعودية عن أصل لها في السيرة النبوية، واستدلوا بحادثة الدليل المشرك الذي استعان به النبي في رحلة الهجرة. في الوقت الذي يمكن أن تجد نصوصاً أخرى تحرّم الاستعانة بالمشركين، لكن السلطة السياسية كانت آنذاك تحتاج الفتوى الأولى لا الثانية!

المساهمون