ماتيس - بونار.. ذكرى صديقين في فرانكفورت

ماتيس - بونار.. ذكرى صديقين في فرانكفورت

02 نوفمبر 2017
(مقهى عربي، ماتيس، زيت على قماش، 1913)
+ الخط -

تحت عنوان "بونار - ماتيس مراسلات"، صدر سنة 1991 عن دار "غاليمار" الباريسية، كتاب ضمّ الرسائل التي تبادلها هذان الفنانان الفرنسيان، قبل أن يصدر الكتاب نفسه بعد سنتين في طبعة ألمانية، تحمل عنواناً مشابهاً "بيير بونار وهنري ماتيس، رسائل وبطاقات".

نميل، في الحقيقة، إلى الاعتقاد بأن فكرة هذا الكتاب قد دعت القائمين على "متحف شتيدل" في مدينة فرانكفورت الألمانية، إلى إقامة معرض يجمع بعض أعمال هذين الصديقين الكبيرين، اللذين عقدا صداقة استمرت أكثر من أربعين عاماً.

ويؤكد ذلك، اختيار الصورة التي استهل بها ذلك الكتاب صفحاته، لتكون أيضاً في بداية الفيديو الخاص بالمعرض على صفحة المتحف الإلكترونية، مصوّرةً ماتيس جالساً مسترخياً في مرسمه في فانس، وقد التقطها له المصور الفوتوغرافي هنري كارتييه بريسون سنة 1944.

وقد أخذ هذا المعرض، الذي يستمر حتى الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2018، اسماً أو عنواناً من صلب تلك المراسلات: "ماتيس بونار، يحيا التصوير" (ويُقصد بالتصوير هنا الرسم بالألوان).

فما بين 1925 و1946 تبادل الفنانان البارزان رسائل عديدة تعدّ وثائق لا تقدّر بثمن، لا سيما تلك البطاقة البريدية التي أرسلها ماتيس (1869 - 1954)، إلى صديقه بونار (1867 - 1947)، من أمستردام سنة 1925، والتي تحتوي ببساطة على جملة رائعة واحدة تقول: "يحيا التصوير"، وعلى هذه البطاقة يرسم أيضاً بقلم الرصاص وجهاً لرجل بالمقلوب.

وقد كانت تلك المراسلات حتى سنة 1940، قليلة وغير منتظمة بين رسّامَيْ السعادة ورغد العيش، فقد سمحت لهما الحياة باللقاء والتحدث وجهاً لوجه، لكن الحرب العالمية الثانية فرّقتهما، ليذهب بونار سنة 1939 إلى مدينة "كان" المتوسطية، حيث فيلّته التي اشتراها قبل سنوات، كما يذهب ماتيس بدوره بعد أشهر إلى الجنوب، إلى "سيميه"، الحيّ الذي يحمل اسم هضبة في شمال شرق مدينة "نيس"، ويقضيان تقاعدهما في ظل تلك الحرب التي دعتهما إلى التفكير في معنى عملهما، هل يتابعان التصوير أم يتوقفان.

ونجد هنا أن لا غنى عن هذه المراسلات لمعرفة هذين الفنانين، فهي تكشف لنا بعض تفاصيل حياتهما وأفكارهما وقناعاتهما وكذلك إعجاب كل منهما بعمل الآخر، وتأثره به وبعمله أيضاً، كما تدلنا على أنهما كانا يتشاركان في الرؤية الفنية نفسها. يكتب أنطوان تيراس، أحد أحفاد عائلة ماتيس ومؤلف كتاب هام عن بونار صدر عام 1988 في هذا الصدد: "كان لديهما مفهوم التصوير نفسه، كما كانا يتشاطران القناعة المطلقة نفسها بأن على اللوحة أن تحيا بذاتها".

إلا أن هذه المراسلات لم تكن جميعها بتلك الجدية، فمنها ما كان يتحدث عن أمور وتفاصيل حياتية بسيطة تخصّ المأكل والتنقلات والمرض...

أتت الأعمال المعروضة التي يقارب عددها المائة وعشرين عملاً، من متاحف عدة، مثل "أورسي" الباريسي و"تات" اللندني و"متحف الفن الحديث" في نيويورك... واحتلت جزءاً كبيراً من طابقين اثنين في المتحف الفرانكفورتي.

وقد توزّعت هذه الأعمال على عدة قاعات صغيرة بحسب المواضيع، من بورتريهات شخصية إلى طبيعة صامتة إلى مناظر خلوية ونساء عاريات... أغلب الأعمال كانت بالطبع أعمال تصوير زيتي، وهو مجالهما الأول.

من القاعات المثيرة للاهتمام، تلك التي ضمت محتوياتها "مفكرات" بونار الصغيرة، والتي رسم على صفحاتها بعض الاسكتشات بقلم الرصاص لفتياته العاريات، كذلك على دراسات سريعة بقلم الرصاص أيضاً على أوراق صغيرة مستقلة قد اصفرّت مع الزمن.

كما تحتوي هذه القاعة أيضاً على رسومات خطية لماتيس بالفحم وبالحبر الأسود وبقلم الرصاص، لنباتات وأزهار وبورتريهات نصفية لنساء يجلسن على أريكة. كما نستمتع بمشاهدة مجموعة من الأعمال الليتوغرافية الملونة من سلسلة "بعض جوانب الحياة في باريس"، التي نفّذها بونار عن الحياة الباريسية بناء على رغبة أمبرواز فولار، جامع الأعمال الشهير، وقد رسم له بونار بورتريه يزيّن إحدى قاعات المعرض.

كما يفرد المتحف قاعة لأعمال "الجاز" التي نفذها ماتيس سنة 1947 بألوان صريحة، وهي جزء من أعمال الكولاج التي عرف بها الفنان الرائد، وقد بدأ بها بمساعدة تلامذته بعد مرضه وعدم مقدرته على الوقوف طويلاً خلف مرسمه.

وككل المعارض من هذا النوع، أفرد القائمون عليه مكاناً للوثائق المادية والرقمية، نجد فيه بعض البطاقات البريدية والصور الفوتوغرافية التي التقطها لهما براساي وأندريه أوستييه وكارتييه بريسون... كما نقرأ أو نستمع فيه إلى رسائلهما مترجمة إلى اللغة الألمانية.

إلى جانب كونه أحد أهم فناني مجموعة "الأنبياء"، يعدّ بونار أيضاً واحداً من أواخر ما بعد الانطباعيين الذين ظلوا مخلصين لتصوير مواضيعهم الأثيرة من مناظر طبيعية وخلوية، بألوان الباستيل القريبة من سلفه ديغا وصديقه ماتيس، وهذا يبدو جلياً في هذا المعرض؛ بينما بقي ماتيس، أول المحدثين، أميناً للمشاهد الداخلية، لكنه عوّض لنا هذا بنوافذٍ تطلّ على الحدائق الخضراء أو على البحر، لا يستطيع أي زائر للمعرض إلا أن يتوقف عندها، فيشعر بهواء المتوسط يلفحه، ويرتوي من زرقته أيضاً.

المساهمون