العيش في عالم ما بعد الحقيقة

العيش في عالم ما بعد الحقيقة

28 يناير 2017
(تجهيز، سون غي باك/ كوريا)
+ الخط -

أخذت الممكنات التزييفية للعالم الافتراضي ولا سيما عوالم التواصل الاجتماعي تثير جدلاً أكثر من أي وقت سابق. قبل عدة أشهر، نشرت مجلة "غرانتا" (Granta) الأدبية على موقعها مقالاً بعنوان "لماذا نحن ما بعد-حقيقيين" (Why We’re Post-Fact) يقدم الكاتب بيتر بوميرانتسيف فيه رأيه عن أننا نعيش في عالم "ما بعد الحقيقة"، لا تهمّ فيه المعلومة الصحيحة بقدر ما يهمّ الكذب والزيف الذي يخاطب عاطفة الناس، خصوصاً مع انتشار مشاركة الأخبار الزائفة المتناقلة عبر وسائل الإعلام المجتمعي، والتكنولوجيا التي يقوم عليها فيسبوك في مشاركة الأخبار وما يظهر منها على حوائط المستخدمين.

مؤخراً أيضاً، أعلن موقع Oxford Dictionaries عن اختيار تعبير "ما بعد الحقيقة" (Post-Fact) كلمته العالمية الأهم لهذه السنة بعد زيادة استخدامها بنسبة 2000% هذا العام، وتحديداً في سياق الانتخابات الأميركية والتصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتم تعريفها على أنها الصفة المتعلقة أو التي تدل على الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل أهمية وتأثيراً في تشكيل الرأي العام من الاستجداء بالعاطفة والمعتقدات الشخصية.

لم يكن الأمر دائماً هكذا، على الأقل بالنسبة لدول العالم المتطورة التي طالما كان خطابها الداخلي موشّحاً بكلمات رنّانة مثل الحقيقة والحرية. بشكل ما، بدا خطاب الدول الكبرى منمّقاً وباذخاً رغم وجود مغاز أخرى لها رائحة نفّاذة. لكن الأمر الآن اختلف مع صعود خطاب جديد ينتشر بسرعة ضمن دوائر اليمين المتطرف الآخذة في الاتساع على نحو غير مسبوق. كذب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثناء حملته الانتخابية بفجاجة، لكن الأهم من كذب ترامب هو تصديق الجمهور الأميركي له رغم سهولة التأكد من المعلومة الصحيحة، وفي حالات دون أي اكتراث للمعلومة الصحيحة. وهكذا ببساطة، لم تعد الحقيقة مهمة حتى رسمياً في الخطاب السياسي الأميركي الداخلي، واستبدلت الدبلوماسية الخارجية الباردة بكذب ساخن.

قد تبدو هذه المشكلة قديمة، لكن الأمر لا يتعلّق فقط بالخطاب الكاذب، فكما كتب بوميرانتسيف، "ليست المشكلة أن الساسة يكذبون، فهذا ما فعلوه دائماً، لكن المشكلة الآن هي أنهم لم يعودوا يكترثون إذا ما قالوا الحقيقة أم لا طالما أيَّدهم العامّة". لكن بعد قليل من التفكير، تناول الكثيرون في السابق مسألة "الحقيقة/الواقع" بأوجه مختلفة، من ديبور إلى هوكسلي وبودريار وغيرهم. من ناحية أخرى، يبدو أن لدى العرب خبرة كافية مع هذا الخطاب الما-بعد واقعي الذي صدّرته الأنظمة العربية منذ عقود. صدقنا أننا في رفاهية وأننا في خطر وأننا محميون وأن علينا الصبر وأن تحرير فلسطين قريب، وكلّه يصبّ في مصلحة خطاب نعمة "الأمن والأمان" الحكومي بأشكاله المختلفة الذي توصد أمامه جميع محاولات التغيير والإصلاح السياسي في البلدان العربية. حدث هذا في الأردن وفي سورية وفي العراق وفي مصر باختلاف الحقب والزعماء.

لكن مع ذلك، تبقى المشكلة الرئيسية في هذا الخطاب الما بعد-واقعي هو قدرته على خلط الحابل بالنابل لدرجة لم يعد بعدها التفريق بين الحقيقة والكذب سهلاً، والكذبة تذهب بعيداً بمساندة كمية هائلة من المواقع التي تروّج هذه الأخبار الكاذبة على أنها صحيحة على شبكات الإعلام المجتمعي.

مع ذلك، يقع كثير من الناس في فخّ تصديق أخبار هي ليست سوى أخبار مزيفة وساخرة كالتي ينشرها موقع "الحدود" مثلاً، فمقالات مثل "محاكمة ضابطي شرطة بعد خروج مواطن سليماً من القسم" أو "لبنان يحقّق الاكتفاء الذاتي من الرؤساء ويبدأ بتصديرهم إلى الخارج" هو تهكّم واضح لكل من يملك أدنى درجة من التفكير النقدي. بالإمكان القول إن التفكير المنطقي والحس النقدي تجاه العالم أصبحا ترفاً، ولا وقت لهما وسط عجلة البحث عن لقمة العيش اليومي للكثير من الناس والتدمير المتعمّد للعملية التعليمية في البلدان العربية.

كتب فريدريك جيمسون في كتابه "ما-بعد الحداثة: المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة" أنه من الأسلم فهم ما بعد-الحداثة كمحاولة للتفكير بالحاضر تاريخياً في عصر نسي كيف يفكر تاريخياً في المقام الأول. بمعنى آخر، نحن نعيش الآن في عصر الحنين المزيف، حنين سياسي خطير فعلاً نتج عن اضطراب نظام اقتصادي مغلّف جيداً بنوستالجيا متخيّلة: داعش وجمهورها يحنّون إلى خلافة إسلامية متخيّلة من جهة، و"اليمين البديل" الأميركي ونظراؤه في أنحاء أوروبا يحنّون للعودة إلى "القيم البيضاء الخالصة"، كما تحنّ رابطة مشجعي بوتين العربية إلى استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي. الأخطر من ذلك كله أيضاً قد يكون في من يتحكّم بعملية مواجهة "الأخبار الكاذبة"، لتختفي قدرة الأصوات الحقيقية المتمرّدة على نقل أخبارها في ظلّ وجود منابر إعلامية "موثقة رسمياً" تنقل نسختها من الأخبار. من الواضح أننا نعيش في كابوس ما بعد حداثي فعلاً.

المساهمون