البوح المُغيَّب

البوح المُغيَّب

08 اغسطس 2016
(من فيلم أيام السادات)
+ الخط -

لا تزال السينما منجذبةً إلى السِيَر الذاتية. تقاربها عبر مداخل عديدة. تعثر، في شخصيات عامة، على منافذ لقولٍ يكشف شيئاً من الذاتيّ، ويذهب ـ بعيداً أحياناً ـ إلى ما هو أعمق من الواجهة، وأرحب من المتاح، وأوسع من المتداول.

تضع الشخصية في أول المشهد، ثم تتجوّل في أنحاء محيطها وعالمها وزمنها وجغرافيتها وثقافات أناس يقيمون معها. تختار شخصية معيّنة، لأن الشخصية هذه ـ بالنسبة إلى السينما ـ مرايا تكشف وتفضح، وتعيد قراءة تاريخٍ، وترسم معالمَ راهنٍ.

منذ سنين بعيدة، تريد السينما من أي شخصية عامة ملاذاً ومتنفّساً، أو أداةً لولوج المخبّأ، هنا وهناك. يقع سينمائيون في الفخّ الكلاسيكي أحياناً، أو يريدونه بناءً بصرياً لسرد تأريخي ـ تقليدي، لا أكثر.

سينمائيون آخرون يفتحون عوالم جمّة، بجعلهم الشخصية المختارة تلصّصاً بصرياً على العالم، وعلى المبطّن فيه، والمكشوف منه. هؤلاء يعتبرون الشخصية المختارة محطة تأمّل في سيرتها، وفي سِيَر محيطين بها، ومسارات مجتمعات وبيئات وحالات معاصرة لها.

الغربيون أجرأ في تفكيك الشخصيات العامة، وفي سرد حكاياتها، وفي الخروج من الذاتيّ إلى الأعمّ. الغربيون أبرع في إعادة قراءة التاريخ عبر السينما، وفي جعل السينما أداةَ فهمٍ لمجريات سابقة، أو لراهن آنيٍّ. الغربيون أوعى في المقاربة والتحليل والاحتيال والمواربة، سينمائياً وثقافياً واجتماعياً، إذْ يُتقنون الاختيار، ويُتقنون وضع الشخصية المختارة على طاولة التشريح الإنساني العام.

الإيطالي ناني موريتي، بديعٌ في تعامله السينمائي مع سيلفيو بيرلوسكوني، في "التمساح" (2006). الأميركي أوليفر ستون ساحرٌ في انتقاداته اللاذعة، وتفكيكاته السينمائية، وسرده الجميل والمعمّق لأحوال أناس كهؤلاء، كما في "الأبواب" (1991) و"نيكسون" (1995) و"ألكسندر" (2004) و"دبليو" (2008). وهذا كلّه بانتظار جديده "سنودن" (2016).

العرب مختلفون. يخشون المواجهة، أو يعجزون عن اختراق الممنوع، أو يخافون من مصير مجهول. السوريّ عمر أميرالاي لا يُحقِّق عملاً عن أسمهان، لشدّة الموانع المفروضة من قِبَل العائلة، على نقيض المسلسل التلفزيوني لممدوح الأطرش، الذي يُعتبر ترجمة بصرية لـ "الرواية الرسمية" البحتة.

المصري محمد خان محاصَرٌ بأجواء العائلة، في تحقيقه "أيام السادات" (2001). السوري البريطاني أنور القوادري يواجَه بتعليقاتٍ قاسية، لإظهاره جمال عبد الناصر مرتدياً ملابس النوم، في "جمال عبد الناصر" (1999). السوري سمير ذكرى كلاسيكيّ في "تراب الغرباء" (1997، الكواكبي).

المأزق كامنٌ في التربية والسلوك والثقافة. لا يريد العربيّ بوحاً ذاتياً. لديه رفضٌ مبطَّنٌ للقول الخاص. هذا ينتقص من ذاته، ومن تمرّده على الجماعة، والعرب لا يعرفون خروجاً على القبيلة، إلّا نادراً.

لا يعني هذا أنه ليس هناك سينمائيون عرب يواجهون ويتحدّون ويتمرّدون ويتجاوزون. محمد خان نفسه لم يرضخ، كلّياً، لمنطق العائلة، فالاحتيال والمواربة السينمائيتان عنده قادرتان على منح فيلمه خصوصية ما. هذا كلّه صحيح. لكن الواقع العربي العام، في هذا المجال، مأزوم.


دلالات

المساهمون