بوهيميا طنجة.. التقاء المألوف والأوقيانوس

بوهيميا طنجة.. التقاء المألوف والأوقيانوس

01 يونيو 2015
(تصوير مات غروس)
+ الخط -

كحالة سردية حضرية استثنائية، ظلّت نشأة وتطوّر مدينة طنجة، الواقعة شمال المغرب، تتردّد في كثير من الأساطير الشفوية والحكايات الشعبية. ويرجع ذلك إلى عاملين؛ يستند الأول إلى خصوصية موقعها الجغرافي، الذي يجاور البحر الأبيض المتوسط من جهة الشرق والمحيط الأطلسي غرباً.

أما الثاني، فيقوم على استحضار أجواء الحياة اليومية الخاصة للمدينة، خلال العصر الحديث؛ حينما أصبحت فضاء للمتع والخلاص الذي كانت، ولا تزال، تجود به على قاصديها من الشعراء والكتاب والفنانين الغربيين تحديداً.

وسواء تعلق الأمر بالعامل الأول أو الثاني، ظلت طنجة - في كلتا الحالتين – تمثل نموذجاً للمدن التاريخية التي يلفّها كثير من السحر، إلى درجة أن المغاربة أصبحوا يعتبرونها "عروساً للشمال المغربي"، بل لم يتردّد صاحب كتاب "وصف أفريقيا"، ليون الأفريقي، في اعتبارها "مدينة عظيمة أزلية".

جاء في إحدى الأساطير الشفوية المتداولة، أنه بعد الطوفان ضلّت سفينة نوح الطريق وهي تبحث عن اليابسة. وفيما هي على هذه الحال، حطت، ذات يوم، حمامة فوق السفينة وقد عَلِق بعض الوحل في رجليها، فصاح ركاب السفينة "الطين" "جاء"، فأصبحت في ما بعد كلمتين "الطين جا" كلمة واحدة هي "طنجة".

ومن جانبها، تحكي الأسطورة الإغريقية أن القائد أنتي، ابن بوسيدون وغايا - الذي كان قد اشتهر بمهاجمته المسافرين الغرباء، وقتلهم كي يصنع من جماجمهم معبداً أهداه، فيما بعد، لوالده - كان قد أطلق اسم زوجته "طِنجة" على مملكته.

اعتبرت مدينة طنجة، في مرحلة ما قبل الاكتشافات الجغرافية الكبرى، منطقة فاصلة بين عالمين: عالم مألوف ومعروف كـ "راحة اليد"، هو البحر الأبيض المتوسط، وآخر غامض ومخيف هو الأوقيانوس أو المحيط الأطلسي، الذي كان علماء تلك المراحل القديمة من تاريخ البشرية يعتبرونه "بحر الظلمات"، ومن هنا حيك حولها عدد من الأساطير والخرافات، التي ما زالت تتداولها بعض الألسن حتى اليوم.

ولهذا السبب، تعدّدت ألقاب طنجة مع تعدّد القوى المسيطرة عليها من الفينيقيين والرومان والبيزنطيين وسواهم، فأسميت "مدينة هرقل" و"مدينة البوغاز" أو "بوابة أفريقيا إلى الغرب الأوروبي" أو "المدينة الكوسموبوليتية".

بيكيت في طنجة 1978 (تصوير: فرانسوا ماري بانييه)


منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى حدود منتصف القرن العشرين، تعرّضت طنجة لاستعمار غربي متعدّد الجنسيات، حوّلها إلى منطقة دولية تحتضن جنون المغامرين والبوهيميين الأجانب، مما أسبغ عليها هالة تخييلية وفانتازية يلفّها السحر والجاذبية، أغرت طموحات عدد من الكتّاب والفنانين الغربيين الحالمين؛ فزارها الرسام الفرنسي، أوجين دولاكروا، سنة 1832، بأمر من الملك لويس فيليب، في إطار بعثة استخباراتية، بهدف نقل صورة مرسومة عن المغاربة تمهيداً لاستعمارهم.

وبعد أكثر من نصف قرن، حلّ بها الفنان الفرنسي، هنري ماتيس، في مناسبتين، خلال سنتي 1912 و1913. كما قصدها الكاتب المسرحي والروائي والشاعر الإيرلندي، صمويل بيكيت، وتردّد عليها مؤسس "رولينغ ستون"، براين جونز، أكثر من مرة، قبل أن ينتهي غريقاً في حوض سباحة. كما مرّ من أزقتها وحواريها وحاناتها كل من أندريه جيد، وويليم فون غولدن، وأوسكار وايلد، وجان جينيه، وترومان كابوت، وألن غنسبرغ.

محمد شكري في مقهى نغرسكو (تصوير: رولان بوف)


كما قصدها الكاتب الأميركي، بول بولز، صيف 1931، وما لبث أن غادرها نحو الولايات المتحدة الأميركية "لقطع حبل السرةّ الذي يربطه بها"، قبل أن يعود إليها سنة 1947 للاستقرار النهائي، حيث بقي فيها إلى حين وفاته سنة 1999. تسنّى لبولز اكتشاف عدد من الكتّاب المغاربة، لعل أشهرهم صاحب "الخبز الخافي"، الكاتب الراحل محمد شكري، سفير مدينة طنجة في مدوّنة لغات السرد العالمي المعاصر.

دلالات

المساهمون