محمد بدارنة: غير معترف بفرحهم

محمد بدارنة: غير معترف بفرحهم

31 مارس 2015
من معرض "ألعاب غير معترف بها"
+ الخط -

تثيرنا سينمائية عين المصور الفوتوغرافي الفلسطيني محمد بدارنة (1978)، وهي أبعد ما تكون عن العين الصحافية التي صوّرت القصص والمواضيع ذاتها. في صخب الحياة التي يتعقّبها بدارنة بكاميرته، يعرض مشاهد فنية تبدو للمتأمل وكأنها صُممت وأُخرجت بكل تفاصيلها.

كأن هناك حسابات فنية دقيقة لترتيب العوامل والعلاقات بينها في إطار الصورة. ولا ضير إن كان هذا الترتيب هو أحد أسس الرسم الكلاسيكي، وركيزة التصوير السينمائي في ما بعد.

معرض "ألعاب غير معترف بها" (افتتح اليوم في "المركز الثقافي العربي" في حيفا، بمناسبة ذكرى "يوم الأرض"، ويستمر حتى الرابع من أبريل/ نيسان المقبل)، هو نتاج عمل دام ثلات سنوات، لقصّص التقطها بدارنة، أبطالها الأطفال الذين يحملون أصوات القرى "غير المعترف بها" في النقب الفلسطيني، وأفراحهم التي تعيش رغم الهدم المستمر.

كل صورة تُخاطب رائيها على صعيدين مركزيين: هناك الانطباع الأول الذي نستقبله، ويرافقه عادة شعور واضح، ايجابي أو سلبي. ثم تأتي مرحلة التأمل في العمل. الصورة الجيدة هي التي تتيح لك امكانية اكتشاف أبعاد أخرى أعمق، وتجعل العمل أمامك بأكثر من مستوى بصري.

مركز الصورة طفلة تبتسم، ودُمى وُضعت على ما يشبه الرفوف. بعد مرور لحظات على الانطباع الأول، يبدأ واقع الصورة وخلفية أصحابها بالانبساط أمامنا. فهذه ليست رفوف، بل هي ما يشبه حائط بيت صُنع من شبابيك لا تقي من الهواء والبرد. والبيت خلفها هو غرفة صفيح، ولا بد أنه مهدّد بالهدم، وإلّا لما كان جزءاً من المعرض.


ألعاب عالية، قرية الزعرورة، النقب


كثيراً ما يُقسم مسرح الصوّر ـ والرسم ـ إلى بُعدين رئيسيّين: مقدمة الصورة وعمقها. يرمز العمق إلى خلفية الشخصيات، وترمز المقدمة إلى حاضرها. هذا التحليل الكلاسيكي ينطبق تماماً على هذه الصورة.

عمق الصورة يوحي بالتقشف وقلة العناصر المشكلة، أي بالفقر. يفتقد هذا البيت لكل ما يسمى بيتاً بالمفهوم الحديث. شحّ الأغراض وهشاشة الجدران، لا تعطي أي شعور بالأمان لطفلة صغيرة. هذه هي إذاً "خلفية" الطفلة. من هذا المكان المظلم تأتي هذه الطفلة، وتقف في "المقدمة" وتطل من شباك الأمل صوب الضوء مبتسمةً. بدارنة لا يريد أن يلون شخصياته بلون البؤس، فإذا كان ماضيها فقيراً، فمستقبلها يمكن أن يكون غنياً بالأمل.

تتميز هذه الصورة بالتضاد بين عناصرها، وهو ما يزيدها تركيباً؛ الخلفية المظلمة مقابل المقدمة المضاءة. شُح الألوان في الخلفية مقابل وفرتها في المقدمة. نظافة الألعاب مقابل البيئة الغبارية المحيطة. عادةً ما يرمز دخول الشمس إلى الظلمة كفعل إيجابي في الفنون البصرية، لكن لا يمكن ادعاء ذلك في حالة دخول الشعاع من جدران الصفيح المثقوب هذا.

وفي النهاية، ابتسامة الطفلة وتضادها مع الموضوع المطروح (التطهير العرقي للنقب). كل هذه التضادات تعزز من تركيب الصورة وتجعلها أشدّ تأثيراً.

(أحلام معلّقة، قرية السرة، النقب)

أحلام معلّقة، قرية السرة، النقب

الانطباع الأول من هذه الصورة إيجابي، فأبرز ما فيها أطفال يتسلقون شجرة. وهو مشهد من حياتنا يوحي بالمرح. هذه نقطة انطلاق الصورة وبيت قصيدها، إلّا أن هنالك ما هو "أبعد".

لا تظهر هذه الشجرة كشجرة يحلو تسلقها، فهي حرشفية يابسة. لكن الأطفال لا يواجهون صعوبة في تسلُقها، بعضهم تسلَّقها حافي القدمين، وجلس على أغصانها الجافة بأريحية تامة. الأطفال عنصر عضوي من الطبيعة الصحراوية، كالعصافير يزيِّنون أشجارها الجافة، ولولاهم لما كان لهذه الأشجار هذه القيمة. فحتى لو لم يبق أي شيء في هذه الصحراء، لن يخرجوا منها، فالنقب بحاجة إلى أهله. وكأن هذه الصورة تقول: الأرض لهم، هم أسيادها وهذا عرشهم الجميل.

مجدداً، هناك تضاد واضح للعناصر المكونة في الصورة التي أمامنا، الأمر الذي يجعلها أشد تركيباً: أرض اليباب القاحلة في العمق، مقابل حيوية الأطفال والأعشاب الخضراء في المقدمة؛ الشجرة الجافة الميتة، مقابل الطفولة النضرة؛ ألوان الأصفر والرمادي المحيطة في مقابل ملابس الأطفال الملونة.

كما هو الأمر في الصورة السابقة، فإن المركبات ذات البعد السلبي، هنا، لا تدمغ الصورة بالطابع التشاؤمي، بل العكس تماماً؛ زيادة التضارب والتناقض بين العناصر المكونة، تساهم في تركيبها (جعلها مركبة) وبالتالي تقوي التوجه المركزي للصورة، وهو توجهٌ إيجابي ومتفائل بالمستقبل.

في الوقت الذي تشكّل المواجهات بين أصحاب الحق والاحتلال، مادة متداولة إعلامياً، ولا سيما مشاهد القمع العنيفة؛ فإن بدارنة يقدّم صوراً تنقل قوة الحياة والفرح لدى أطفال هذه القرى، رغم حرمانهم من أبسط الحقوق كالصحة والتعليم والمسكن، وتعرّض بعض قراهم للهدم المتكرر.

الصورة هي لحظة من الزمن، تجمَّدت أمامنا، وعليها أن تحكي قصة ما. الصور في معرض بدارنة هي حكايات أمل، رغم كل شيء.

المساهمون