التحاب والتعددية المفردة

التحاب والتعددية المفردة

16 مارس 2015
صمويل فيبر (تصوير: دانييل روشا)
+ الخط -

رغم أننا التقينا عدة سنوات خلت - لا أتذكر بالتحديد متى وأين - لكن اللقاء اندرج في إطار ارتباطنا معاً بجاك درّيدا، صديقنا المشترك. ولم يتم تواصلنا ببعضنا بعضاً بصفة فعلية إلا في السنوات الأخيرة، بمناسبة ندوة نظمتها الجامعة الأميركية التي أنتمي إليها حيث طلب مني أن أعلّق على واحد من نصوصه هو: التحاب (L’aimance).

كنت لفترة طويلة قارئاً ومولعاً بكتاباته منذ أن اكتشفت "عشق اللسانين"، لكن تلك كانت المناسبة الأولى التي تفاعلتُ فيها معه بشكل مباشر.

وأنا أعود الآن بتفكيري إلى "التحاب" ـ كتاباته حوله ونقاشاتنا خلال تلك الندوة ـ تتبادر إلى ذهني كلمة أخرى لم تطرح خلال النقاش لكنها تلخّص في اعتقادي جزءاً من إعجابي بعبد الكبير، وهي كلمة "سلاسة" (aisance) التي يجب عدم الخلط بينها وبين كلمة "كفاية" (suffisance)، وهي ما أثارني في كل هذا.

نحن نعيش في زمن يعج بالمشاكل والأزمات، وعبد الكبير كان واعياً للأخطار، ربما أكثر من أي واحد منا. لكنه كان قادراً على تجنب الأخذ بالحل المقترح من قبل العديد من الكتّاب والمثقفين البارزين، والمتمثل في الانسحاب داخل عمله كذريعة للهروب من مشاكل العالم الخارجي: وسيكون هذا "كفاية".

وما لفت نظري هو كيف واجه عبد الكبير هذه المشاكل وفي الآن نفسه رفض أن يسمح لها بتحديد برنامجه. كيف استطاع أن يفعل هذا، لا أدري. لكن لم يكن أحد أكثر منه ارتباطاً بالعالم ـ في الواقع بمختلف العوالم التي يقيم فيها وينفذ إليها- بطريقة مكّنته من انتزاع الحوافز والمساندة منها دون الخضوع تماماً لها. وهذا ما يفسر لماذا تفرض كلمة "سلاسة" نفسها عندما أعود بذاكرتي إلى أولى لقاءاتنا، في الولايات المتحدة، ثم في فرنسا، وأخيراً في الرباط خلال الخريف الفائت.

ولأن واحداً من الاهتمامات التي نتقاسمها يتعلق باللغة، فإن هذا يجعلني أتوقف عند هاتين الكلمتين: "تحاب" و"سلاسة". فبهدف التفرقة بين "سلاسة" و"كفاية"، أريد أن أؤكد الآن أنه ينبغي عدم الخلط بين "سلاسة" وأي شيء سهل. في اللغة الإنجليزية، هناك اختلاف بين "سهل" (easy) و"ارتياح" (ease).

كان عبد الكبير مرتاحاً للعوالم التي كان يسكنها لأنه لم يسمح لنفسه أن يسلك الطريق السهل خارجها. والعجيب في ارتياحه هو عدم استبعاده بأي حال من الأحوال، وفي الواقع شمْله توتراً معيناً-واهتمامه الشديد بكل ما يدور حوله. كل هذا مختزل في اللاحقة الفرنسية (suffix) اللافتة للنظر: "ance". وكان دريدا أول من لفت انتباهي إلى أهمية هذه اللاحقة ـ في إحدى كتاباته الأولى ـ أعتقد كان ذلك في كتابه De la grammatologie ـ حيث كتب عن "تنقُّل" أو "حركية" (mouvance) عوضاً عن "حركة" (mouvement).

ويكمن الاختلاف في أن اللاحقة "ance" ـ التي سيستعملها دريدا في ما بعد لابتكار ربما أهم الألفاظ الجديدة (neologism): اختلاف (différence)، ويعيد عبد الكبير اكتشافها بكلمة "تحاب" (aimance) ـ غالباً ما تشير ليس فقط إلى تحويل الفعل إلى اسم (nominalization)، ولكن أيضاً إلى الأكثر استعجالاً والأكثر مدعاة للحيرة، إلى شكل الفعل الأكثر ميلاً إلى عدم الثبات، أي اسم الفاعل، مثل: "مختلفاً" (différent)، أو "محباً" (aimant).

وسبب قولي عن شكل الفعل بأنه يميل إلى عدم الثبات، هو أنه على النقيض من اسم الفاعل، يُعتبر بجوهره مفتوحاً وغير مكتمل، بينما يتميز دائماً اسم الفاعل بمعاصرته لنطقه أو لأي فعل آخر؛ معاصَرة يطلق عليها دريدا صفة "anachronistic" أي منطو على مفارقة تاريخية، مختلف ومؤجل في شبه تزامنه. وهذا ما يفسر لماذا كان يتم تجنبه في الخطاب الأكاديمي ولماذا كان متواجداً في منعطفات حاسمة في الكتابة، سواء كانت فلسفية، نقدية أو أدبية أو جميع هذه الانواع معاً.

ليس التحاب مرادفاً فقط للحب، كما المحبة بالنسبة إلى الحب. الحب يمكن اعتباره شيئاً خارجاً عن الزمن ـ جوهر نقي ـ بينما المحبة تتواجد دائماً في الزمان والمكان، دائماً قائمة ودائماً مفتوحة، وبلا مبدأ داخلي للغلق بشكل يرتقي بها إلى مكانة الجوهر الخارج عن مفهوم الزمن. لهذا كانت الكتابة مهمة جداً عند الخطيبي، وكانت طريقته في الإنخراط في العالم بتفرّده: بعبارة أخرى لف زمنها ومكانها مع زمنه ومكانه.

إن بدا هذا نظرياً ـ وهو فعلاً كذلك بمعنى من المعاني ـ فلارتباطه بذاكرتين ملموستين جداً. ذاكرتان لـ"آثار" لن تنسى كلما تذكرت عبد الكبير. [...] أثر يديّ عبد الكبير اللتين تتبعان أنماطاً معقدة في الهواء راسمةً حدوداً وضعية يتقاسمها المخاطَبون، ومرافقةً خطابه بطريقة أسميها طباقية. أتذكر المرة التي كنا نجلس فيها بمقهى "كلوزري دي ليلا" لتحضير حدث "الأصوات الأطلسية". وفي لحظةٍ ما، كان علي أن أضغط على نفسي للتركيز على ما كان يقوله، نظراً إلى انبهاري بالطريقة التي كان يتكلّم بها.

بعد ذلك، وخلال الأسبوع الذي قضيته في مدينة الرباط، عدت إلى مسألة حركات يديه التي أثارتني طيلة زيارتي القصيرة. كنت واعياً دائماً للدلالة النظرية للحركات. لكن أول بداية تطبيقية للحركة تمت مع عبد الكبير. هناك طريقتان مختلفتان لفهم الحركة. الأولى هي التعبير، أي إظهار شيء في الداخل، مختفي عن النظر. الأخرى ـ ليست بالضرورة بعيدة عن الأولى ولكن أيضاً ليست أقل شأناً منها ـ هي حركة توقّف وليس فقط إظهار. وبالتالي فهي مثل إظهار شيء آخر غير متوقع؛ تدخُّلٌ يقوم بتغيير المشهد الذي يضعه ويخلعه على الفور.

حركات عبد الكبير كانت تتم على هذه الشاكلة: تتدخل في العالم وفي نفس الوقت تزيحه، كاشفةً من ناحية أخرى ربما على تنقله الخفي، ليس بالضرورة كواقع فعلي بل كإمكانية افتراضية ولو أنها لن تتحقق أبداً وراء نطاق هذه الحركات. أعتقد أن هذا الوضع الهش للاحتمالية والتغيير هو المسؤول عن الأثر الثاني الذي بقي محفوراً في ذاكرتي ويتعلق بتذكّر ابتسامته. فهي دافئة ومطمئنة وفيها نوع من السخرية والحرص على إبقاء مسافة معينة عن الآخر. كانت هذه هي طريقته في الارتباط بالعالم دون الخضوع كلياً له ـ لحقيقته بمعنى آخر. وكانت هذه هي الطريقة التي حافظ بها على العهد بما يحمله من وعود وإمكانيات ـ بما يمكن تسميته التعددية المفردة.

عوالم وكلمات بالمتعدد ولكنها مفردة، التحاب لكن بسلاسة.


* مفكّر أميركي

ترجمة: مراد الخطيبي

المساهمون