الجسد العاري: للرقابة وجوه كثيرة

الجسد العاري: للرقابة وجوه كثيرة

04 نوفمبر 2015
("نابالم" لـ نذير نبعة، 1967)
+ الخط -

لا يعرف عبد الوهاب هيكل، وهو أول موديل عاري في مدرسة الفنون الجميلة التي أنشأها الأمير يوسف كمال عام 1908 في القاهرة، أن مهنته انقرضت، ليس في مصر فحسب وإنما في سورية أيضاً، حيث لم يعد الموديل العاري معمولاً به، منذ بداية الثمانينيات، بحجّة أنه لا يتناسب مع الأخلاق العامة، واستُبدل بنموذج حيّ يرتدي الملابس.

لم يكن المنع قراراً إدارياً أو رسمياً، وإنما جاء من بعض الأساتذة "الفنانين" من داخل الكلية، بحجة تقليص الميزانية المخصّصة لحصّة الموديل العاري، والذي يُعتبر تمريناً أساسياً في تكوين المعرفة والخبرة الفنية.

الحقيقة أن هؤلاء الفنانين الذين يُدينون له، بشكلٍ أو بآخر؛ حيث تمرّنوا على رسمه في السابق، يَعتبرون، اليوم، أن فكرة الموديل العاري جاءت مع تأسيس مدارس الفنون التي اعتمدتها المناهج الأوروبية، وأنها لم تعد تتناسب مع عادات مجتمعنا: "الأولى بنا أن نبحث عن فنّنا وتراثنا الإسلامي. يجب أن يكون هناك منهاج تدريسي خاص ينسجم مع المنطقة ومع الفن الإسلامي والعربي القيّم"، يعلّق أحد أساتذة مادة الرسم في كلية الفنون الجميلة في دمشق.

لا يبدو الوضع أحسن في لبنان، الذي عرف الموديل العاري منذ الأربعينيات؛ حيث شكّلت مريم خيرو، أول سيدة تمتهن العري الأكاديمي، نموذجاً أساسياً لجيل الرواد. فمع نهاية الحرب اللبنانية بداية التسعينيات، مُنع الموديل العاري في "معهد الفنون الجميلة" في بيروت بتأثير بعض الأحزاب الدينية السياسية المتنفّذة.

لاحقاً، عُمّم الأمر على باقي فروع الجامعة وتنتهي حقبة الموديل العاري مع ميشلين ضو التي اعتزلت المهنة منذ عشر سنوات تقريباً. أما الموديل الوحيد المعمول به اليوم فهو رجل بلباس البحر.

رغم الرقابة، واصل طلاّب الفنون في مصر أو سورية ولبنان رسم الموديل العاري، إما عن طريق الاستعانة ببعضهم بعضاً أو توظيف الموديل بشكلٍ خاص خارج إطار الكلية، ما يفسّر استمرار حضور العري في أعمال الفنانين العرب.

لطالما كانت العلاقة بين صورة الجسد العاري في الفنون البصرية/ التشكيلية والرقابة إشكالية، مضطربة واعتباطية ومتغيرة في العالم العربي. غير أنه، ومع بداية الثمانينيات، بدأ العري ينحسر تدريجياً في المنتج البصري الإبداعي (في السينما بشكل خاص)، بسبب المتغيّرات الاجتماعية والسياسية.

ارتبطت السبعينيات، عالمياً، بفكرة تحرّر الجسد، وسط مناخ تحرّري نسبي في المنطقة العربية يدلّل عليه حجم حضور الجسد شبه العاري في السينما وخاصّة المصرية والسورية واللبنانية، كما في الفيلم المصري "سيدة الأقمار السوداء" (1971) و"حمام الملاطيلي" (1973) أو الفيلم السوري "أموت مرتين وأحبك" (1976)، والذي تظهر في أحد مشاهده مجموعة من النساء وهن عاريات الصدر في أحد الحمّامات الدمشقية.

لكن المثال الأبرز هو فيلم "الفهد" (1972) عن رواية حيدر حيدر، وإخراج نبيل المالح، حيث تظهر ممثّلة في أحد مشاهده عاريةً تماماً. لتكون، على الأغلب، المرّة الأولى في تاريخ السينما العربية التي يظهر فيها جسد عارِ كليّةً، إلا أن الرقابة ستعود، لاحقاً، لتحذف هذا المشهد نهائياً.

الرقابة التي كانت منفتحة نسبياً في تلك الحقبة، ستمنع أيضاً عرض فيلم "كافيه مولر" الذي كان مقرّراً عرضه في بينالي الرقص المعاصر في دمشق عام 2010، ضمن سلسلة أفلام، تكريماً للراقصة الألمانية بينا باوش التي رحلت في 2009، بحجة أن جسد باوش النحيل يظهر من تحت قميص نوم شفّاف.

قبل ذلك بسنتين، أثار الممثّل المصري نور الشريف ضجّة بعد ظهوره عارياً في أحد مشاهد فيلم "ليلة البيبي دول" (إخراج عادل أديب) التي تحاكي عمليات التعذيب الشهيرة في "سجن أبو غريب" بعد الغزو الأميركي للعراق. رغم أن التوظيف جاء ليُظهر وحشية الاحتلال، إلا أن الشريف لم يسلم من النقد.

تتعدّى فكرة الرقيب شكل موظّف الدولة الرسمي، فأي شخص يستطيع أن يتقمّص هذا الدور، كما حدث مع التشكيلي السوري أسعد عرابي الذي اضطرّ إلى طباعة كتابه، المرافق لمعرضه "أقنعة الجسد" (2006)، والذي يصوّر جسد المرأة العاري بطريقة تعبيرية، في بيروت، بعد أن رفضت طباعته إحدى دور الطباعة في دمشق، بحجة أن أعمال الفنان تحتوي على صور "فاضحة".

رغم أن الرقيب، مهما كان شكله، لا يستطيع منع الفنان من تصوير الجسد العاري، لكنه يمكن أن يقيّد إنتاجه ويقونن حضوره ليتناسب مع "الأعراف" الاجتماعية والعادات والتقاليد، فيلغي تمرين الموديل العاري ويقلّص حضور العري في معارض الدولة الرسمية ويمنعه في الأماكن العامة، كالنصب التذكارية أو اللوحات الجدارية.

كما يمكن أن تكون الرقابة ذاتية تفرضها معايير أسواق الفن العربية وأذواق المقتنين، ما يدفع بعض الفنانين إلى هجر التشخيص أو التحايل على فكرة العري بتغطية الأعضاء الجنسية. يعلّق التشكيلي أسعد عرابي حول هذه الفكرة قائلاً: "أصبح رسم العري، بسبب من التردّي الثقافي التشكيلي، نوعاً من المغامرة، حتى لا أقول الخطيئة والمخاطرة بالسمعة الفنية، في أوساط ذوقية تعصبية متزمتة".


اقرأ أيضاً: النحت يا حرام

المساهمون