"نظرة الصمت": عن القتل وشيطنة الضحية

"نظرة الصمت": عن القتل وشيطنة الضحية

31 أكتوبر 2015
مشهد من فيلم "نظرة الصمت"
+ الخط -
تعرض الصالات الفرنسية، حالياً، فيلم "نظرة الصمت"، وهو الجزء الثاني من وثائقي المخرج الأميركي جوشوا أوبنهايمر حول أحداث سنة 1965 في إندونيسيا، حين قامت خلالها الطغمة العسكرية، بتحريض ودعم الأميركيين، بالانقضاض على الديموقراطية الإندونيسية الفتية وإبادة ما يقارب المليون من المعارضين تحت غطاء الحرب على الشيوعية.

في الجزء الأول "فعل القتل"، يعطي جوشوا الكلام لمجرمي الحرب الذين لم يتعرّضوا لأي محاسبة وما زالوا يمسكون بزمام السلطة، فيأخذ هؤلاء بسرد جرائمهم الرهيبة بحماس وتلذّذ وفخر وحنين عجائز يستذكرون مآثر شبابهم.

أمّا في الجزء الثاني، فيعطي أوبنهايمر الكلام للضحايا وذويهم الذين ما زالوا مرغمين على العض على الجرح والعيش في الخوف والقهر والذل بجوار جلاديهم.

الشخصية الرئيسية في الوثائقي هي أخصائي النظر أدي ركن الذي عُذّب أخوه وقُتل بصورة شنيعة إبان تلك الأحداث. يذهب أدي برفقة كاميرا جوشوا لمقابلة المسؤولين عن مصير أخيه، وتتدرّج اللقاءات من أسفل الهرم التنفيذي إلى أعلاه. في كل مرّة، هو يسألهم عمّا جرى ويستمع بهدوء إلى عرضهم المقزز قبل أن يكشف لهم عمّن يكون، مع تجنّب الكشف عن اسمه الحقيقي.

إلا أن الفيلم يميز جيداً بين المسؤولين الذين اغتنوا وتبوؤوا أعلى المناصب بسبب ما فعلوه، والمنفذين المباشرين من الفلاحين الجهلة الذين كانوا يشربون دماء ضحاياهم عملاً بخرافة مفادها أن ذلك يقيهم من الجنون.

يبدو أدي أكثر تفهّماً حيال الأخيرين، ويحاول أن يشرح لهم بأن المزاعم التي كان العسكريون يروّجونها لشيطنة ضحاياهم خالية من الصحة. في المقابل، هو يطرح أسئلة حذقة على الأوائل ويتعمّد إرباكهم وحشرهم، وهؤلاء بدورهم يتعاملون معه بحذر وينتقلون فوراً إلى التهديد، ما إن يتّضح لهم من يكون.

يبدو الفيلم نفسه مرتبكاً حيال السؤال الذي لا ينفك يطرحه الجلادون على أدي: وإذاً، ماذا تريد؟ هو يشرح بأنه ليس هنا للمواجهة أو المحاسبة، بل لكسر الصمت ومحاولة الفهم. لكن ما معنى الفهم أمام وضوح بهذه الفجاجة؟ وما معنى كسر الصمت حين لا تكون ذكرى الجريمة تابوهاً إلا في بيئة الضحايا، في حين يتبجّح بها الجلادون جهاراً وفي وضح النهار؟ وما معنى تقديم الغفران إلى من لم يطلبه ولم تصدر عنه أدنى بادرة ندم؟

فقط في حالة واحدة، تتكرّم عليه ابنة أحد المجرمين بالاعتذار، فيبدو أدي شديد الامتنان ويعانقها ويعانق والدها بحرارة مع أن هذا الأخير لم يبد أي أسف أمامه.

في إحالة رمزية واضحة، يستهل أدي لقاءه مع القتلة في كل مرة بفحص عيونٍ مجاني. هو يريد مساعدتهم على رؤية الأمور من وجهة نظر أهل ضحاياهم الصامتين.

الأمر الأكيد هو أن الجلادين لم يقتنعوا، فالمنفّذون المباشرون لم يروا إلا الضحية العاجزة تتسوّل منهم الذنب والاعتذار، في حين رأى الآخرون الأعلى رتبة في خروج الضحية عن صمتها تهديداً يجب وأده في مهده.


اقرأ أيضاً: لقد عاد: سيلفي مع هتلر

المساهمون