"طنجة للفيلم القصير": فجوة تتعمّق

"طنجة للفيلم القصير": فجوة تتعمّق

14 أكتوبر 2015
(من فيلم "غي موكي")
+ الخط -

لم تخرج الدورة الثالثة عشرة من "المهرجان المتوسّطي للفيلم القصير"، التي أُقيمت في مدينة طنجة المغربية بين الخامس والعاشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري، عن عادة الدورات السابقة في تأكيد الفجوة بين أفلام ضفّتي المتوسّط.

بقيت أفلام الضفة الجنوبية رهينة رؤى تقليدية ومعالجات مكرّرة للقضايا التي طرحتها، مع استثناءات قليلة حاولت اتباع أثر تجارب سينمائية عالمية رائدة، دون أن تنجح في مضاهاة مستواها الفني والجمالي، فيما طرقت أفلام الضفة الشمالية مواضيع وجودية عميقة وفق رؤىً جديدة.

كان من الطبيعي، إذن، أن تحصد الأفلام الأوروبية جوائز المهرجان، الذي عادت جائزته الأولى إلى الفيلم اليوناني "بين الأبيض والأسود" لـ سقراط ألافوزوس.

يروي الفيلم رحلة رجل إلى طفولته المقموعة داخل ذاكرته، فينتقل بين غرفها التي تتميّز كل واحدة منها بلون مختلف: من غرفة ذكرى ولادته التي تحمل لوناً وردياً لأن والدته كانت ترغب في فتاة، إلى الغرفة البرتقالية التي تضمّ ذكرياته مع أخيه الأكبر الذي كان يعنّفه. تتوالى الغرف والذكريات والألوان، لكن الأبيض والأسود هو الرابط الرئيسي بينها، لأنه يمثّل العلاقة بين الرجل وطفولته.

قدّم المخرج في هذا الفيلم صورة سينمائية بالغة الجمال والتفرّد، مع إحكام خيوط القصّة ومشاهدها، متنقلاً بين الذكريات ببراعة وتمكّن جعلاه يُقنع لجنة التحكيم، رغم المنافسة القوية للأفلام الإسبانية والإيطالية.

بدورها، حصلت السينما الفرنسية على حصّة الأسد من جوائز المهرجان، فنالت ستيلا دي ديكو جائزة الإخراج عن فيلم "رقصة العائلة"، الذي حصلت بطلته بولين إيتيان على جائزة أفضل دور نسائي، بينما عادت جائزة السيناريو إلى ديميس رونجر عن فيلم "غي موكي".

أمّا جائزة لجنة التحكيم الخاصّة، فذهبت إلى الفيلم الإيطالي "في صمت" لمخرجيه لـ ورنزو فيرانتي وماتيو ريكا، وكانت جائزة أفضل دور رجالي من نصيب الممثّل الكرواتي ألكسندر سيسكان، عن دوره في فيلم "نزهة" للمخرج يوري بافلوفيتش.


فيلمٌ داخل فيلم
سجّلت السينما الإسبانية حضوراً قويّاً في الدورة الثالثة عشرة من المهرجان، عبر عدد من الأفلام المتميزة، أبرزها "حياتي سينما" للمخرجين بوكدان توما وفيرناندو كايو، اللذين قدّما تجربة الفيلم داخل الفيلم، عبر ثلاثة مشاهد نكتشف في نهاية كل منها أن الأمر يتعلّق بمشهد من فيلم.

تتوالى أحداث الفيلم إلى أن تصل إلى كواليسه؛ حيث نقترب من العلاقات بين فريق العمل التي تتّسم بالتشاحن الذي يؤول إلى الصدام، لنكتشف أنه مشهد آخر من فيلم يتحدّث عن ظروف ومشاكل تصوير الأفلام، لنصل إلى المشهد الأخير؛ حيث يطلق البطل النار على رأسه خلال الاحتفال بنجاح الفيلم، مع ما يرافق انتحاره من ردود فعل حاولت استغلال وفاته في تسويق العمل، في إحالة إلى الفكرة القائلة بأن الواقع فيلم طويل مستمر يجمع أفلاماً قصيرة داخله، والجميع يشاركون في تأدية أدواره ومشاهدته في آن.

أمّا في فيلم "عظام البرد"، فيعود المخرج إنريكي لِيال إلى موضوع الحرب الأهلية الإسبانية، من خلال شخصية دومي التي تذهب في رحلة شاقة للبحث عن شقيقها الأسير لإعادته إلى البيت. خلال الرحلة، تتعرّض إلى مواقف تترك فيها أثراً بالغاً؛ حيث تُعايش مواقف تُحوّل فيها الحرب البشر إلى حيوانات جائعة؛ للطعام والحب والسلطة.

رغم ذلك، لم تنجح الأفلام الإسبانية في إقناع أعضاء لجنة التحكيم؛ حيث اكتفت بتقديم تنويه عام للسينما الإسبانية التي قال رئيس لجنة التحكيم، المغربي قويدر بناني، إنها "قدّمت أعمالاً متميّزة، لكنها لم ترق إلى مستوى الأفلام الفائزة".

إيطاليا التي شاركت بخمسة أفلام، قدّمت بدورها أعمالاً متميّزة. لعلّ أبرزها "في صمت" الفائز بجائزة لجنة التحكيم، والذي يحكي قصّة شقيقين، تعرّض الأكبر إلى حادث أصابه بالشلل، ما يجعل الأصغر يرفض تقبّل حالة أخيه الذي يتشارك معه ذكريات مليئة بالحركة، فيقرّر أخذه في نزهة إلى الطبيعة، في محاولة لاستعادة الماضي. لكن أخاه المشلول لا يستجيب، فيضطر في الأخير إلى تقبّل وضعه والبدء في العناية به. جاء الفيلم متكاملاً من خلال جمعه بين إنسانية القصّة المؤثّرة وجمالية الصورة، مُحقّقاً بذلك فرجة سينمائية.

كما حقّقت السينما الفرنسية حضوراً طاغياً عبر أفلام مختلفة، أبرزها "رقصة العائلة" لـ ستيلا دي توكو، الفائز بجائزة الإخراج. يتناول العمل حياة جولي، الفتاة القوية والمتحرّرة، والتي تعود إلى منزل العائلة، حيث ستعيش لحظات مربكة حين تكتشف العنف الذي يمارسه والدها على أمها.

أيضاً فيلم "غي موكي" الفائز بجائزة السيناريو، والذي تدور أحداثه حول شابين أسودين يقعان في الحب. يعِد الشاب حبيبته بتقبيلها أمام الحي بأكمله، وهو الأمر الذي يثير زوبعة قبل حدوثه.

إلى جانب ما سبق، نذكر أفلاماً أخرى، مثل الفيلم الكرواتي "نزهة" الفائز بجائزة أفضل دور رجالي، والذي يروي قصّة طفل يقوم بنزهة مع والده المسجون.

من الجبل الأسود، فيلم "برودة دم" الذي تناول بصيغة فنية متميّزة موضوع الانتقام؛ حيث يخطّط زوجان للثأر من قاتل ابنهما الهارب بعد عودته، لكن الأب يعجز عن إطلاق الرصاص حين تحين اللحظة المنتظرة.

ومن تركيا، فيلم "الحلم" الذي يحكي قصة معلّم في قرية نائية لا يصله خبر الانقلاب العسكري، فيقع ضحية ولائه للحكم السابق. إلى جانب أعمال أخرى كثيرة تألّقت وقدّمت تجرب سينمائية متميزة.


في ضفّة أخرى
في المقابل، كان مستوى معظم الأفلام المشاركة من بلدان جنوب المتوسط، متراوحاً بين المتوسّط والضعيف. على مستوى الكمّ، لم تتجاوز عدد تلك الأعمال 13 من أصل 51 عملاً مشاركاً في المهرجان.

أمّا من ناحية الكيف، فقد يشكّل غيابها التام عن منصة التتويج مؤشّراً للمستوى الفني؛ إذ لم يستطيع أيٌّ منها ملامسة أية من الجوائز، باستثناء تنويه لجنة التحكيم بفيلمين مغربيين هما "الانتظار في 3 مشاهد" لـ عبد الإله زيرات و"دوّار السوليما" لـ أسماء المدير.

تناول الأوّل موضوع الانتظار، في ثلاثة مشاهد لثلاثة أطفال ينتظر كلّ واحد منهم شيئاً ما، بينما يدور الثاني حول طفل يقيم في بادية يُطلَق عليها "دوار السوليما" نسبة إلى قاعة سينما يشتغل فيها جدُّه. وقد حصل الممثّل الطفل اسماعيل الشتيوي على تنويه لدوره في الفيلم.

تجدر الإشارة إلى أن المغرب شارك بخمسة أفلام، وهو الحدّ الأقصى المسموح به لكل بلد. وقد طالبت لجنة التحكيم بتخفيض العدد إلى ثلاثة أفلام لكل بلد في الدورات المقبلة.

قدّم المخرج هشام الركراكي في فيلم "نداء ترانغ" قصّة جندي مغربي شارك في حرب فيتنام، غير أن غلبة الجانب الجمالي وطغيان الصورة والموسيقى على معظم مشاهده، إضافة إلى طولها، أثّرا على عناصر الحكي ولم يتركا مجالاً رحباً للقصّة لتكتمل بشكل أكثر إقناعاً.

فيما اختار محسن نظيفي قضية الفساد بكل أنواعه: السلطوي والأخلاقي وغيرهما، ثيمة قاربها بشكل موفّق إلى حد ما في فيلمه "عبد الشر". لكن كثرة الأحداث حمّله ما لا يحتمله الفيلم القصير الذي يُفترض منه تقديم لحظات مكثّفة من الحياة البشرية، لتبدو أعمق وذات حمولة أقوى.

أمّا السينما الجزائرية، فشاركت بفيلمين متوسّطي المستوى، برز بينهما "نسيبي" الذي يتناول، في قالب كوميدي، موضوعاً ما زال يثير حساسية في أوساط المجتمعات العربية وهو المثلية الجنسية.

الملاحَظ في الأفلام العربية عموماً هو تناول المغاربية منها واضيع اجتماعية خاصّة بدول المغرب العربي، فيما طغى الطابع السياسي على أفلام لبنان وفلسطين، مع استمرار النظرة الدونية إلى الفيلم القصير باعتباره محطّة تدريبية قبل إخراج أفلام طويلة، بدل الاهتمام به كجنس سينمائي منفصل وقائم بذاته، إلى جانب بروز محاولات لاقتفاء أثر تجارب سينمائية رائدة مثل السينما الإيرانية التي ذكرها كثير من المخرجين المغاربيين، خلال مناقشة أفلامهم، لتبرير المستوى البسيط الذي ظهر به بعضها.

المساهمون