وقفة مع علي ناصر كنانة

وقفة مع علي ناصر كنانة

18 يناير 2022
علي ناصر كنانة
+ الخط -

 تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أسئلة حول انشغالاته وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته مع قرّائه. "أحلم بواقعٍ كونيّ يضمن لشعوب أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا شروط الاستقرار والتنمية" يقول الشاعر والباحث العراقي لـ"العربي الجديد".


■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
إنسانياً، يشغلُني ما يشغلُ البشريةَ كلَّها بآثار جائحةِ كورونا على مختلف مستويات الحياة الشخصية والاجتماعية، فضلاً عن القلق الجمعيّ في العالم من أنّ وراء الأكمةِ ما وراءها، وهو ما لا أميلُ إلى تبنّيه دون دليلٍ قاطع. أمّا معرفياً، فمن جهةٍ أولى، هو نفسُهُ الانشغالُ الدائم فكريَّاً بالهموم الوجوديَّة وقضايا الكون، وفي مقدِّمتها استشراء المظالم وغياب العدالة وأسئلة الزمن والموت، ناهيك عن توقُّف عجلة التنمية في الوطن العربي وانحسار الفعل الحضاري. ومن جهةٍ أخرى، الانشغالات المعرفيَّة اليوميَّة، بين قراءةٍ وكتابة، وفي هذه الفترة أنكبُّ على تأليف كتاب سيكون عنوانه المحتمل "استبطانات السِّحر الخفيِّ في الأشياء" أو "سِحر الأشياء"، وهو أصعب كتبي من ناحية الجهد، بسببِ طبيعته، ولا أريد الاستفاضة في الحديث عنه لأنه قيد التأليف.

■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟
في الشهرين الأخيرين من عام 2021، صدر لي كتابان: أحدهما ببغداد عن وزارة الثقافة العراقيَّة وعنوانه "الأبويَّة الثقافيَّة – أسطورة الشُّعراء الشباب أنموذجاً"، وثانيهما عن "منشورات الجمل": "الولاء البديل – دراسة ثقافيَّة في التأثيرات العميقة لكرة القدم". وربما يكون عملي المقبل، وقد أجّلتُ إصداره كثيراً، "التزام الوردة – دراسة أدبية في الالتزام الجمالي في الأدب"، وهو قيد الطباعة كما علمتُ مؤخّراً. 

■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟
أخشى أن يعني الرِّضى قناعةً واقتناعاً، وفي هذه الحالة لا أظن أن كاتباً جادّاً، مهما بلغ شأوه، سيرضى عن إنتاجه ويجلس مسترخياً على كرسيِّ القناعة، لأنَّ الكتابة تمثِّل هاجساً متوهّجاً دائماً نحو التجاوز، نحو عطاء أكثر تميّزاً وخصوصيةً وتفرّداً. ولكن إذا ما شئتُ مراجعة تجربتي في الكتابة، لا أريد أن أخفي ما أشعر به حاليَّاً: في أنّ عطائي كباحث أعمق من عطائي كشاعر، وإنني لَأدرك جيداً الظروف الموضوعيَّة والذاتيَّة التي تركت أثراً بالغاً على تجربتي الشعرية، وفي مقدّمة ذلك، تأثير انهماكي المبكِّر في العمل النضالي السياسي على بداياتي، ولم أتحرّر من هذا التأثير إلّا مع صدور مجموعتي الشعرية "فجاءة النيزك" عن "المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر" عام 2002. وسوى ذلك، أعتقد أن مشروعي في الدراسات الثقافيَّة والإعلاميَّة يسير كما خطَّطتُ له.

لا أريد أن أخفي أنّ عطائي كباحث أعمق من عطائي كشاعر

■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟
أعتقد أنَّ هذا السؤال الرومانسي شاغَفَ أفئدة معظم الناس في لحظةٍ ما، ولكن لم يُتح لأيٍّ منهم استعادة الزمن للشروع بمسارٍ آخر. ولو قُيِّضَ لي البدء من جديد، مع الاحتفاظ بذاكرة الخبرات والأحلام والآلام، لن أنخرط بالعمل السياسيِّ في الخامسة عشرة (وهذا ليس خياراً في عِراقٍ يتداول الناسُ فيه السياسةَ مثل ضرورةٍ لسانيّة)، ولا أغادر العراق في الحادية والعشرين من عمري وأترك أمّي وحيدةً بدعوى التزامي بـ"القضيَّة"، وقد جِئتُ على ذلك في مخطوطة سيرتي قائلاً ندماً: "ألعنُ أبا القضيَّة التي تجعلني أتركُ أمّي وحيدةً، أليستْ أمّي هي القضيّة؟  كيف واتتني الجرأة لأردَّ عليها بهذه القسوة؟ كان ينبغي أن أمكثَ في العراق خادماً لقدميها". 
وما عدا ذلك، أنا فخورٌ بعصاميّتي وسيرتي وما بلغتُهُ في الحياة قياساً على ظروفي.
 
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟ 
العالم هو نفسُهُ، لم يتغيَّر كما أردنا له أن يكون، وما عصف به من تغيّرات أطاحتْ بكلّ أسباب التفاؤل وأحالت الأحلام إلى أوهام. العالم نفسه لم يتغيّر، ورؤيتي له لم تتغيّر، فقد عايشتُ ويلاتِهِ لأكثرَ من ستّين عاماً، الفقراء يغرقون في فقرهم والأثرياء يحلّقون بثرائهم، والظلم لا يزال سائداً بطغيانه والعدالة باتت خطاباً باهتاً، والقوى الكبرى تتلاعب بأقدار العالم، والمستبدّون يتوارثون الاستبداد وينعمون به، والشعوب خسرت أبسط منجزاتها. ومع نجاح الولايات المتَّحدة في عولمة (أعني أمرَكَة) العالم لم يعد ثمّة ضوء في نهاية النفق، وأمام البشرية طريقٌ طويلة جدّاً، قبل أن تلمح هذا الضوء لتُهرول نحوه. وإذا كان يحقُّ لنا أن نَحلم، سأحلم حتماً بواقعٍ كونيٍّ يضمن لشعوب أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا شروط الاستقرار والتنمية والتطوّر الطبيعي. ولكنّ تاريخ العالم لا يشي بأيِّ تغيير منظور، فالأقوياء تقوم قوَّتهم على ضعفنا، يختلفون فيما بينهم، ولكنَّهم يتَّفقون على إخضاعنا واستغلالنا، لكي يظلّوا منتِجين ونبقى مستهلِكين.

■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟ 
سأختار أربع شخصيّات. أقول لعليٍّ بن أبي طالب: "لقد وزّعتِ الأممُ المتَّحدة على أعضائها منهجيّتَكَ في الحكم نموذجاً للحكم العادل. هل أنت راضٍ عمّا يفعله الإسلام السياسي الشيعي باسمك؟". ولعمر بن الخطّاب أقول: "ألستَ القائل: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟ هل أنت راضٍ عمّا يفعله الإسلام السياسي السنّي باسمك؟". ولتشي غيفارا أقول: "سلاماً. لقد كنتَ أشرف الثوّار". وأقول لأبي: "أبتاه، لماذا تركتني وحيداً؟".

■ صديق/ة يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟
صديق حاضر أبداً في البال، هو صديقي وأستاذي الشاعر والمصوِّر العراقي سفيان الخزرجي، الذي يُعَد أكثر شخصيَّة ثقافيَّة أثّرت تأثيراً مباشراً في حياتي ومساراتها. أمّا الكتاب فهو "نقد العقل السياسي" لريجيس دوبريه، لأنَّه أثرَّ بي كثيراً عندما قرأته عام 1989. والكتب التي أعود إليها كثيراً هي المراجع البحثيَّة، وتحديداً: بيار بورديو، تيري إيغلتون، رولان بارت، ميشيل فوكو، ريجيس دوبريه، رومان ياكوبسون، ثيودور أدورنو، وغيرهم... ولكنّ ديوان المتنبي هو ما تسكن النفس إلى مُجالسته.

يتّفق الأقوياء على إخضاعنا ليظلّوا منتجين ونبقى مستهلِكين

■ ماذا تقرأ الآن؟ 
كتاب دانييل لورانزيني "قوّة الحق – من فوكو إلى أوستين"، وهو كتاب مُملّ، ولا أدري إذا كان مصدر الملل في أصل الكتاب، أم في الترجمة.

■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
ثمّة صوت غنائي يتلاوع في روحي، يتقمّص الأصوات الشجيّة التي تستجيب لنداءاتي الحزينة. لم تعد هناك تجربة غنائيّة، كتجربة عبد الحليم حافظ، أو فيروز، أو ناظم الغزالي مثلاً، لنستمع إلى جميع أغانيها، وما نشهده الآن أغانٍ متناثرة يروق لنا سماع بعضها. وناظم الغزالي لا يزال مطربي الأثير عراقياً، والملحّن طالب القرغولي الأكثر إبداعاً موسيقيَّاً، خاصّةً في تلحين قصيدة "البنفسج" للشاعر مظفّر النواب. ولعلّ من المناسب في هذا السياق أن أذكر كتابي "فلَك النصّ في الغناء العراقي، دراسة في مضامين النصوص الغنائية العراقية، 1920-1980"، الذي صدر عن "منشورات الجمل" عام 2016.


بطاقة
شاعر وباحث ومترجم عراقي، من مواليد الرفاعي عام 1958. عاش في بغداد، وفي عام 1979 غادر العراق لأسباب سياسيّة إلى الكويت، وعمل فيها صحافيّاً حتى عام 1987. تعرَّض للاعتقال في الكويت والعراق ما بين 1985 و1989، ولفترات بلغت حتّى 12 شهراً. رحل عن طريق "الأمم المتّحدة" إلى السويد عام 1989، وتفرّغ هناك للدراسة والكتابة في العديد من الصحف العربيّة. حصل على إجازة الدراسات البريدية العالية من "المعهد العالي العربي للبريد" التابع لجامعة الدول العربية (القاهرة، 1983) وعلى إجازة في الدراسات الثقافية من "جامعة استوكهولم" (1999)، وماجستير في الأدب والأدب المقارن من "جامعة استوكهولم" (2001)، ودكتوراه في الآداب من "جامعة الروح القدس - الكسليك" في لبنان (2008)، عن دراسة في لغة وإعلام الغزو الأميركي للعراق. في أيلول/ سبتمبر 2001 انتقل للعمل في "المجلس الوطني للثقافة" في قطر، ويعمل حاليّاً مديرَ إدارة المحتوى العربي في مكتب رئيس مجلس إدارة "مؤسّسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع". صدر له: "تراتيل لوعة الزنبق" (1990)، و"بغداهولم" (2000)، و"فجاءة النيزك" (2002)، و"ليلاً على سفر" لتوماس ترانسترومر (ترجمة عن السويدية لثلاث مجموعات ومختارات، 2003)، و"حُفاة العولمة – قراءة نقدية لقضايا الواقع العربي" (2004)، و"سيدة الصيف" (2004)، و"الإعلام وأنظمة الإيهام: قناة الجزيرة أنموذجاً، 1996-2006" (2006)، و"في العراء" (2007)، و"اللغة وعلائقياتها" (2009)، و"إنتاج وإعادة إنتاج الوعي: عناصر الممالأة والتضليل" (2009)، و"جيوش اللغة والإعلام، دراسة مقارنة في لغة وإعلام الغزو الأمريكي للعراق" (2011)، و"المنفى الشعري العراقي: أنطولوجيا الشعراء العراقيين في المنفى" (2013)، و"فَلك النص في الغناء العراقي: دراسة مضامين النصوص الغنائية العراقية، 1920-1980" (2016)، و"الثقافة وتجليّاتها: السطح والأعماق" (2016)، و"ليس سوى رماد" (2018)، و"الولاء البديل، دراسة ثقافية في التأثيرات العميقة لكرة القدم" (2021)، و"الأبوية الثقافيّة، أسطورة الشعراء الشباب أنموذجاً"ً (2021).

وقفات
التحديثات الحية

المساهمون