هدى شعراوي في فرنسا.. رحلة أسّست للحركة النسوية المصرية

هدى شعراوي في فرنسا.. رحلة أسّست للحركة النسوية المصرية

16 ابريل 2022
أحد شوارع باريس أواخر القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

أثرت رحلة الرائدة النسوية المصرية هدى شعراوي إلى فرنسا في العام 1909 فيها كثيراً، وجعلتها تتبنى خطاباً راديكالياً لتحرير المرأة المصرية والعربية بعد أن لمست عن كثب ذلك الفارق الحضاري الكبير بين الشرق والغرب. ورغم أن بعض الباحثين يرجعون نزعتها النسوية إلى مشكلات تتعلق بطفولتها وزواجها المبكر، إلا أن تلك الآراء لا يمكن وصفها بالآراء المنصفة، كونها تحاول أن ترجع تبني النزعة النسوية لدى رائدات ذلك الزمن إلى مشكلات شخصية، ونزعات مرضية.

وهدى شعراوي هي ابنة رئيس مجلس النواب المصري محمد سلطان باشا، ولدت في مدينة المنيا في العام 1879، وتلقت تعليمها في منزل والدها، وزُوّجت في الثالثة عشرة من عمرها لابن عمتها علي باشا الشعراوي، والذي كان يكبرها بأربعين عامًا، ومنه حصلت على كنيتها "الشعراوي" على نسق سيدات المجتمع المخملي في ذلك الوقت.

بعد عودتها من فرنسا في العام 1909، أنشأت شعراوي مع الأميرة عين الحياة أحمد مبرة خيرية لعلاج فقراء المصريين، وأسست مجلة "الإجيبسيان" باللغة الفرنسية، كما أنها أقنعت الجامعة المصرية بتخصيص قاعة للمحاضرات التي تُعرِّف بحقوق النساء، حيث كان لنشاط زوجها علي باشا السياسي، وانخراطه في ثورة 1919 إلى جانب الزعيم سعد زغلول، أثر كبير على نشاطاتها، فقامت بالاشتراك مع صفية زغلول بتنظيم تظاهرات نسائية، وساهمت في تأسيس لجنة الوفد المركزية للسيدات وأشرفت عليها. وكان نضالها في تلك المرحلة منصباً على رفع السن الأدنى لزواج الفتيات إلى 16 عامًا، وللفتيان إلى 18 عامًا، كما سعت لتقييد الطلاق من جانب الرجل، وكانت من أشد الداعيات لمشاركة المرأة في العمل السياسي وخروجها إلى سوق العمل، وربما هي أول مسلمة في الشرق تخلع النقاب بشكل علني أثار عليها نقمة المحافظين.

أسست هدى شعراوي أول اتحاد نسائي في مصر، كما كانت صاحبة الدعوة لأول مؤتمر نسائي عربي شاركت فيه وفود من مختلف الدول العربية آنذاك، حيث اعتبرت شعراوي ملهمة النسويات العربيات المسلمات، في وقت كانت النسويات العربيات المسيحيات قد قطعن شوطًا في هذا المضمار منذ نهايات القرن التاسع عشر.

في العام 1938، نظمت هدى شعراوي مؤتمرًا نسائيًا للدفاع عن فلسطين، شارك فيه عدد من المناضلات النسويات العربيات، على رأسهن المناضلة النسوية السورية نازك مصطفى العابد.


نابولي المدينة الشرقية!

في صيف عام 1909، سافرت هدى شعراوي إلى أوروبا للمرة الأولى، وكانت وجهتها فرنسا بناء على مشورة الأطباء للاستشفاء، وكان معها في هذه الرحلة شقيقها وزوجته وأولاده ووالدتها.

تقول هدى شعراوي: "أبحرنا (من الإسكندرية) على إحدى البواخر الألمانية، وسارت بنا في هدوء واتزان إلى أن اقتربنا من نابولي، وكنت أتوق لرؤية هذا الميناء الذي طالما شوقتني خالتي إليه بوصفها الجميل له، وعندما أوشكت السفينة على الرسو، أبصرنا زوارق صغيرة ملأى بالمغنين والموسيقيين يوقعون الأغاني الشعبية ابتغاء عطف المسافرين عليهم بدراهم قليلة".

وتضيف: "وكم كان مؤثرًا وغريبًا ومسليًا في وقت واحد منظر تلك الزوارق تحوط بها أسراب من الأطفال الصغار يسبحون في الماء كالأسماك في انتظار عطايا المسافرين. فإذا ما ألقى إليهم أحد ببعض الليرات، غاصوا جميعًا في الماء لالتقاطها. بينما يطوف بعض الباعة الجائلين بالمركب ليبيعوا الصدف والمرجان وأنواع الأنتيكات والحلي وغيرها".

وتلفت نظرها حالة التشابه الكبير بين مدن الشرق وهذه المدينة الإيطالية، وفي ذلك تقول: "عندما رأينا حال أهل تلك المدينة، لم نشعر بأننا بعدنا كثيرًا عن الشرق، إذ كنا نرى الأطفال حفاة عراة الرؤوس ليسوا على جانب كبير من النظافة، كما كان الحال في بعض البلدان الشرقية، كذلك، فقد كنا نشاهد في بعض الطرقات الملابس المغسولة منشورة في النوافذ والشرفات، وأحيانًا على حبال مشدودة بين منزل وآخر بعرض الشارع، وفي الأحياء الفقيرة، كنا نرى بعض النساء جالسات أمام بيوتهن يمشطن شعورهن".

وقد أمضت هدى شعراوي وعائلتها تلك الليلة في نابولي بعد أن زاروا بركان فيزوف والغاليري، وعندما استيقظت في الصباح الباكر ونظرت من نافذة غرفتها، رأت منظرًا من أروع مناظر الطبيعة، كما قالت، فقد كانت الشمس تبدو من بين قمم الهضاب وكأنها شعلة متقدة من النيران.


مرسيليا وليون

بعد ذلك، انطلقت السفينة مبحرة إلى مرسيليا، وعندما اقتربوا منها، ظهرت أمامهم في ثوب يختلف عما رأوه في نابولي، فقد كانت السماء قاتمة والهضاب المحيطة بالميناء رمادية اللون، ورست الباخرة في الميناء صباحًا.

وتصف هدى شعراوي هذه المدينة المتوسطية الفرنسية بقولها: "أمضينا ذلك اليوم فيها، وهي مدينة جميلة وبهيجة وكثيرة الحركة والنشاط، فهي بلد تجاري، وقد استلفت نظري تقارب عادات أهلها مع أهالي الموانئ الشرقية. وقد قصدنا زيارة بعض معالم تلك المدينة وآثارها، فزرنا الغاليري، والمتحف وكنيسة نوتردام دي لومباري، وهي كنيسة أثرية عظيمة على مرتفع شاهق. وفي اليوم التالي، دعانا شقيقي للغداء في فندق "لاريزوف"، وهو يقع على الكورنيش فوق مرتفع مطل على منظر البحر الجميل، وفيه تناولنا نوعًا من الحساء يسمى "البويابيس"، وهو مصنوع من جملة أنواع من السمك مضافًا إليها التوابل، ويقدم مع قطع من الخبز الجاف والجبن المبشور".

وتغادر شعراوي مرسيليا في اليوم التالي إلى ليون، التي تلاحظ أنها مدينة أوروبية خالصة لا أثر فيها للشرق: "قضينا في ليون يومين تفرجنا خلالهما على مصانع الأقمشة الشهيرة وعلى حوانيتها المنظمة، وقد اشترينا منها بعض ما يلزمنا من ملابس، وليون بلد أوروبي محض لم نر فيه شيئًا يذكرنا بالشرق، وهو فوق ذلك كله بلد صناعي وتجاري وعلمي من أعظم بلاد فرنسا"


أناقة باريس وجوها الساحر

من ليون إلى باريس، حيث نزلوا في فندق "برنسيس أوتيل" في الشانزليزيه؛ ولما مروا بميدان الكونكورد الواسع الجميل، رأت رائدتنا حركة كبيرة، وعجبت لوجود مسلة مصرية في وسط ذلك الميدان العظيم أشعرتها "بعظمة مصر ومجدها القديم في تلك البقعة التي تعتبر رمز الحضارة والمدنية الحديثة"، كما قالت، "وكان وجودها ميثاقًا دائمًا للصداقة الأدبية المتينة التي توطدت أواصرها بين أبناء النيل وأبناء السين".  وتقول: "لقد رأيت الرجال والنساء مشاة وركبانًا، وزرافات ووحدانًا، يمرون بشارع الشانزليزيه في أبهى حلة وأجمل زينة، فظننت أنه يوم عيد، وسألت شقيقي عن هذه المناسبة، فأجابني بأن باريس هكذا كل يوم".

الصورة
هدى شعراوي - القسم الثقافي
(هدى شعراوي)

وتضيف: "أعجبتني باريس، ليس فقط لجمال مبانيها، واتساع شوارعها وتنظيم ميادينها وتنسيق متنزهاتها وحسن هندام أهلها، وإنما أيضًا؛ لأن الإنسان يجد في كل خطوة فيها ما يغذي عقله ويوسع خياله وينمي مداركه ومواهبه، هناك الجمال وحسن الذوق يتجليان في كل شيء ويدفعان الإنسان إلى البحث عن معرفة أصله".

وتأخذ حركة باريس وحيويتها بلب هدى شعراوي، التي تبدو وكأنها مسحورة في ذلك العالم الذي لا يشبه إلا أجواء روايات ذلك الزمن ولوحاته، وفي ذلك تقول: "كان يكسب هذه الحركة العظيمة رونقًا وبهاء مرور العربات تحت قوس النصر الذي يقع وسط ميدان النجمة الجميل، وعلى جانبي الشارع، تتناثر الفنادق الكبيرة والمقاهي الأنيقة التي تعزف فيها الموسيقى والغاصة بالجماهير، وعلى هذا الميدان، يطل فندق "برنسيس أوتيل" وهو من الفنادق العائلية الممتازة، وهو عبارة عن سراي قديمة بها غرف وأبهاء واسعة منسقة تنسيقًا جميلًا ومفروشة بأثاث فاخر ورياش ثمين، وقد استأجرنا في هذا الفندق طابقًا مستقلًّا بالاشتراك مع شقيقي، فكنا نشعر في هذا المكان الهادئ أننا لسنا بعيدين عن منازلنا. وقد خرجنا في اليوم التالي لوصولنا إلى باريس لمشاهدة بعض حوانيتها الكبيرة والتوصية على ما يلزمنا من المحلات الشهيرة، وكم عجبت عندما رأيت محلات الأزياء الكبرى تعرض الملابس على فتيات جميلات أنيقات، ولم يكن في هذا العرض مجرد الترغيب في شراء الملابس، بل فيه دروس للمشترية تمكنها من تمييز ما يلائم هذه الملابس من باقي اللوازم التي تحتاجها لتكملة أناقة الملبس، وكذلك تستطيع أن تنتقي الألوان المناسبة للون شعرها وبشرتها".

وصادف في ذلك اليوم مهرجان الزهور في غابة بولونيا، فتصفه لنا الرائدة النسوية المصرية بقولها: "كان طريق الأكاسيا غاصًّا بالمتفرجين والمتفرجات من المشاة والجالسين على جانبي الطريق، وكانت عربات الزهور تمر مكسوة بأنواع الأزهار المختلفة وأمامها وخلفها عربات تقل السيدات والرجال في أبهى زينة وأجمل ملبس. وكانوا يتراشقون بالأزهار والورود تغمرهم البهجة ويرفرف عليهم السرور، بينما كان المشاة والواقفون يجمعون الأزهار التي تتساقط من العربات ويكونون منها باقات لأنفسهم يزينون بها منازلهم وغرفهم الصغيرة، فمن طابع الأوروبيين ميلهم الشديد للأزهار وتقديرهم لها وحبهم فيها باعتبارها غذاء لأرواحهم، حتى إن معظم الفقراء لا يبخلون على أنفسهم بشراء بعض الأزهار يزينون بها بيوتهم أو يحلون بها صدورهم".


الشقيق الدليل

لا تخفي هدى شعراوي أن لشقيقها الدور الأكبر في تعريفها على باريس "لقد تطوع شقيقي في أن يكون دليلنا مدة إقامتنا في باريس، فكان لنا خير دليل وأكبر معين؛ لأنه كان يعرف كل مرافقها وضواحيها ومنتزهاتها ودور التمثيل والفنون الجميلة والمتاحف والسرايات الملكية القديمة والتاريخية، وكان ذلك يرجع إلى ما يتحلى به من حسن الذوق وتقدير الأشياء حق قدرها، ولذلك كان وجوده معي يكسبها جمالًا في عيني فوق جمالها ويزيد من تقديري لها، وهو ما لم أعد أشعر به من بعده. وكم كنت أرتاح لوجودي بجانب شقيقي في الزيارات التي كنا نقوم بها في باريس، لاتفاق شعورنا وميولنا في تقديرنا للفن والعلم والجمال وتقارب أذواقنا، وأظن أنه هو أيضًا كان يشعر مثلي بكثير من الغبطة لمرافقتي له، وكم شقت عليَّ زيارة تلك الأرجاء بدونه من بعده، وكم فقدت من رونقها في نظري كلما حاولت أن أستعيد الذكرى".

وتلفت رائدتنا النظر إلى طبيعة التربية والتعليم في فرنسا، تلك التربية التي يتلقاها الطفل قبل أن يدخل المدرسة "حيث يشب الفرنسي في أية بيئة ملمًّا منذ نعومة أظفاره بتاريخ بلاده، قبل أن يدخل المدارس ويتعلم هذا التاريخ في الكتب، ولذلك تراه فخورًا بتاريخها المجيد، حريصًا على خلود هذا المجد، وليس هذا فحسب، بل ترى الشعب الفرنسي يطوف بكل القصور الأثرية والميادين التاريخية ودور الآثار والعلم والمتاحف الفنية والكنائس والمعابد التي تفتح له أبوابها في أيام العطلات".


إعجاب بشراسة الرعاع

لا يقتصر إعجابها بباريس على مظاهرها المبهرجة فقط، بل يتعدها الإعجاب بشراسة أخلاق الرعاع فيها، والسبب أنها "لا تخلو من خفة الروح وتعبر عن شخصية لا تكلف فيها ولا تغيير، فالفرنسيون أشخاص متفردون بعبقرتيهم، مستقلون في أفكارهم وطباعهم وأعمالهم وصفاتهم وحتى في عيوبهم، ولذلك تجدهم محافظين على شخصيتهم، فخورين بها، متباهين بحريتهم، متفانين في تقديسها".

ومع ذلك، لا تخفي هدى شعراوي تألمها من نتائج التطرف في تلك الحرية في بدء عهدها بزيارتها، إذ كانت تظن أن الصغير والكبير من كل طبقة في تلك الأمة على جانب عظيم من الرقة وحسن المعاملة، ولكنها رأت عكس ذلك، وتروي لنا هذه القصة للتدليل على كلامها: "عندما أردت لأول مرة زيارة أحد حوانيت باريس الكبرى في يوم حدد لتخفيض أثمان البضائع، وجدت على أبواب الحانوت زحامًا شديدًا، فوقفت عند الباب لأمكن بعض الداخلين من المرور مجاملة كما هي عادتنا في بلاد الشرق، ظانة أنه سيأتي دوري وأجد من بين الداخلين من يرد لي تلك المجاملة، ولكني لاحظت للأسف أنه لم يشعر بوجودي أحد، ورأيتني مدفوعة بشدة بين تلك الأمواج المتلاطمة من الأجسام البشرية، تتقاذفني موجة وتتلقاني أخرى باللكم والسير على قدمي، فكادت تنهمر دموعي على خدي من هذا التسابق الرهيب، وثم وجدت نفسي أمام منضدة محوطة بالمتفرجين والمتفرجات وقد مددت يدي بلطف إلى قطعة من القماش أعجبتني، ولكن سرعان ما اختطفتها من يدي إحدى المتفرجات بغلظة حتى كادت الدموع تفر من عيني مرة أخرى، ولكني كتمت تأثري حتى لا يضحكوا أو يسخروا مني، وأخيرًا خرجت من المحل بعد أن اتخذت من ذراعي مجذافين أستعين بهما على النجاة من تلك اللجج البشرية المتراصة".

وتعلق على ذلك بقولها: "مثل هذه الأشياء لم ترقني أول الأمر، ولكنني انتهيت منها إلى أن أفهم أن التزاحم في الحياة هو سبب نهضة تلك الأمم وتفوقها، وإن كان ذلك مظهرًا من مظاهر الأنانية، وأن تسامح الشرق ورقة شعوره هما سبب تأخره واضمحلاله، رغم ما في ذلك من نبل ودعة".

بعد شهر من الإقامة في باريس، تغادر هدى شعراوي وأمها إلى أحد المنتجعات الصحية للاستشفاء مما كانت تعانيه من اضطراب في الأوردة الدموية، وهو سبب قدومها إلى باريس أصلاً.

المساهمون