هاني عوّاد وأحمد محسن: سؤال المركزية في مصر

هاني عوّاد وأحمد محسن: سؤال المركزية في مصر

24 مارس 2021
مشهد من القاهرة (Getty)
+ الخط -

بعنوان "الدولة والأمّة ونظام الحكم: التداخُل والتمايُز"، أُقيمت مساء اليوم الثلاثاء أشغال الجلسة التاسعة من الدورة الثامنة من "مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية" الذي ينظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات" تحت عنوان "الدولة العربية المعاصرة: التصوُّر، النشأة، الأزمة".

بدأت الجلسة، التي أدارها الأكاديمي عمر عاشور، بورقة للباحث والأكاديمي هاني عوّاد بعنوان "اللامركزية السياسية في سياقات مؤسَّسية مركزية: معضلة نظام الحكامة السلطويّ في مصر"، والتي انطلق فيها من سؤال أساسي: كيف يُمكن فهم اللامركزية في ظل أنظمة شديدة المركزية؟

للإجابة عن السؤال، قدّم عوّاد تعريفَين أساسيَين؛ يتعلّق الأوّل بمفهوم "نظام الحكامة المحليّ"، والذي يعني "مجموعةً من القواعد والمؤسسات والشبكات الرسمية وغير الرسمية التي تتفاعل لتحكم المستويات المحلية من المجتمعات"، ويتعلّق الثاني بمفهوم "اللامركزية السياسية" الذي يعني "إشراك المستويات الدنيا في عملية صنع القرار".

يطرح عوّاد سؤالاً آخر؛ هو: لماذا تلجأ النظم السلطوية إلى اللامركزية السياسية؟ مجيباً بأنَّ الأدبيات تقول بأنَّ النظم السلطوية قد تلجأ إلى حلول لا مركزية من أجل توسيع قواعدها الاجتماعية كما في حالة الأردن (2018) وأثيوبيا (2016)، أو من أجل تعزيز الروابط بين المركز والأطراف، كما في حالة الصين (2008)، أو من أجل نقل مهام التنمية إلى المجتمعات المحلية، كما في حالات مختلفة من شرق أوروبا وجنوب آسيا (2006)، أو لإدارة الشبكات الزبائنية وتعزيز التنافسية فيها بينها، كما في حالات في شرق آسيا (2012)، أو لنيل إعجاب المنظّمات الدولية والمجتمع الدولي كما في حالاتٍ مختلفة من شمال أفريقيا (2020).

يُضيف المتحدّث بأن الأدبيات تُجمع، بشكل عام، على أنّ اللامركزية السياسية هي ضرورة لدى الأنظمة السلطوية من أجل التكيُّف وترسيخ سيطرتها على المجتمعات المحلية، لكنّه يُشير إلى أنَّ هذه الأدبيات تفتقر إلى شرح كيف تستطيع الأنظمة السلطوية ذات الطابع المركزي التكيُّف دون لامركزية سياسية.

تُقدّم دراسة عوّاد مجموعةً من المقولات المتعلّقة بالحالة المصرية؛ وهي أنه من خلال دراسة التشكُّل التاريخي لحالة نظام الحكامة في مصر، وتطوُّر نظام السيطرة على المستوى المحلي في محيط القاهرة (مكان الدراسة)، يُمكن المجادلة بأن الأنظمة شديدة المركزة تلجأ أيضاً إلى اللامركزية السياسية، ولكنها تلجأ إليها بشكل غير رسمي، وأن من الضروري لفهم اللامركزية السياسية في مصر مواكبة التطوُّر المفاهيمي في حقل الإدارة العامة بالتركيز على ما يُعرف بـ"المركزية واللامركزية الأفقية"، وبأنه يمكن القول بأنَّ النظام المصري حافظ على مركزية الجهاز البيروقراطي بشكل عمودي، ولكنه عمل على لامركزته بشكل أفقي، وبأنَّ وسيلة الرئيس الأسبق حسني مبارك في لامركزة نظام الحكامة هي الانتخابات البرلمانية وبدرجة أقلّ الانتخابات المحلية، وبأنه على الرغم من أن اللامركزية السياسية كانت فاعلة على المستوى المايكرو (الحي والقرية والمدينة) إلا أنها فشلت على المستوى الماكرو (الدائرة والمحافظة).

وتُقسم الدراسة ما تسمّيه التطوير التسلّطي لنظام الحكامة المحلّي المعاصر في مصر إلى ثلاث مراحل: مرحلة "التأسيس" في عهد جمال عبد الناصر (الستينيات)، ثم "الاستقرار" في عهد محمد أنور السادات (السبعينيات)، ثم "الإدارة" في عهد محمد حسني مبارك (1981 - 2011).

يستعرض عوّاد خصائص كل مرحلة بالاستناد إلى "مثلث الحكامة المحلّي" (البيروقراطية المحلية، ووزارة الداخلية، والحزب الحاكم)؛ حيث اتّسم نظام الحكم المحلي في المرحلة الأولى بعدم الاستقرار والصراع بين مختلف مكوناته وعدم الثقة، وهو ما أثّر في قدرته التعبوية وفي انتشار مظاهر الفساد، وكان العنصر الأكثر قوّة في الحكامة هو البيروقراطية المحلية، وفي المرحلة الثانية اتّسم مثلث الحكامة بتناغم عال بين عناصره الثلاث، لكن بقيت البيروقراطية المحلية العنصر الأكثر تأثيراً على النظام، كما بدأت في هذه المرحلة عملية أمننة المجتمع.

وفي المرحلة الأخيرة، خصوصاً في العقد الأخير من عهد مبارك، أصبح لأمن الدولة الدور الحاسم في نظام الحكامة، وأصبح النظام خبيراً في توظيف الانتخابات من أجل التحكم في المجتمعات المحلية.

ويشير المتحدّث إلى ما يسميه "أزمة علاقة الماكرو بالمايكرو" في مصر؛ موضحاً أنّ اللامركزية السياسية كانت فعالة على المستوى المحلي ولكنها فشلت في أن تترجم فعالياتها على المستوى الدائرة والمحافظة، حيث استطاع الحزب الحاكم بدعم من الأمن والبيروقراطية المحلية احتكار إدارة الشؤون المحلية، ولكنه فشل في تحويل ذلك إلى هيمنة سياسية، والسبب هو افتقاد الدولة إلى مشروع وطني أو أيديولوجيا، وهو ما جعل النظام غير قادر على التخلي عن الأمن وتوظيف القمع من أجل ضمان فوز الحزب الوطني في الانتخابات العامة.

فشلت المركزية السياسية في مصر على المستوى المحلي بسبب افتقاد الدولة إلى أيديولوجيا

يُذكر أن هاني عوّاد باحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومدير تحرير دورية عمران. عمل سابقًا مساعدًا أكاديميًّا في جامعة بيرزيت، التي نال منها شهادة الماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة. حاصل على شهادة الدكتوراه في التنمية الدولية من جامعة أكسفورد في بريطانيا. تتركز اهتماماته البحثية على الحركات الاحتجاجية، والسوسيولوجيا التاريخية، وسوسيولوجيا المكان، وسياسات الريف، والسوسيولوجيا الحضرية والنظرية السياسية. صدر له كتاب عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر بعنوان "تحولات مفهوم القومية العربية: من المادي إلى المتخيل" (2012).

وتحت عنوان "الشرعية أولاً؟ الإنجازات أولاً؟ دراسة مقارنة عن "شرعية الإنجاز" بين مصر والصين"، قدم الأكاديمي أحمد محسن ورقةً تنطلق من ملاحظة أنه منذ الثمانينيات وحتى 2010، كانت مصر والصين تصنفان كأنظمة غير ديمقراطية، ومع ذلك حققت الثانية معدلات عالية في التنمية الاقتصادية والمحلية في حين لم يحدث ذلك في مصر، متسائلاً: ما الذي يفسر هذا الاختلاف في النتيجتين بين بلدين متشابهين؟

يشير محسن الى أن أحد التفسيرات التي تقدم لهذا الوضع هو أن الأنظمة الأوتوقراطية الأكثر مركزية واستبداداً تكون لها فرصة أكبر لتحقق إنجازاً اقتصادياً وتنمية محلية، مضيفاً أن هذه الفكرة موجودة في العديد من الكتابات التي تناولت موضوع التحديث، ورأت أنه يحتاج إلى قيادة مركزية قوية بطابع استبدادي. المثال هنا هو تحقيق الصين، بنظامها غير الديمقراطي، معدّلات اقتصادية أعلى مقارنةً مع الهند ذات النظام الديمقراطي.

وتقود الفكرة السابقة، بحسب المتحدث، إلى القول بأن الديمقراطيات الوليدة أو الناشئة لها فرص أقل وأصعب لتحقيق إنجاز اقتصادي.

على ضوء ما سبق، يطرح محسن سؤالاً آخر: أيهما أفضل لتحقيق التنمية: مزيد من الديمقراطية، أم مزيد من السلطات المركزية والاستبدادية؟

هنا يطرح محسن فرضية دراسته، والتي ترى أن دمقرطة الأنظمة الأوتوقراطية، بمعنى إدخال مجموعة من الإصلاحات الديمقراطية عليها، تزيد من قدرتها على تحقيق الإنجازات الاقتصادية وليس العكس، مضيفاً أن الإنجازات الاقتصادية لا تمنح شرعية للأنظمة الاستبدادية.

وينتقد المتحدث ما يسميه "شرعية الإنجاز"، معتبراً أن الشرعية هي التي تؤدي إلى إنجاز اقتصادي، وليس العكس، مشيراً إلى أن الدراسة تتعامل مع "الشرعية" لا كقيمة معمارية، بل كمفهوم كمي متعدد الوجوه، وبالتالي فهي تزيد وتنقص ويتم اكتسابها أو فقدانها مع الوقت.

دمقرطة الأنظمة الأوتوقراطية تزيد من قدرتها على تحقيق الإنجازات الاقتصادية وليس العكس

يستعرض محسن، في مقارنته بين الحالتين المصرية والصينية، التجربة الصينية في إنشاء المشاريع الاقتصادية الموجهة للقرى والبلديات، في شكل مؤسسات اقتصادية تعمل على الصعيد المحلي بهدف تأمين احتياجات السوق المحلية، مشيراً إلى أنها ساهمت بنسبة 15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الصين عام 1985، وظلت هذه النسبة ترتفع بشكل ملحوظ.

ويلفت محسن إلى أهمية هذه التجربة بوصفها انتقالاً من فكرة المركزية إلى شكل من أشكال اللامركزية في إدارة المشاريع الاقتصادية، مضيفاً بأن ارتباطها بالاحتياجات المحلية للمواطنين خلق نوعاً من الرقابة والمحاسبة عليها من قبل المواطنين أنفسهم، بوصفهم مشترين، ثم بوصفهم مواطنين مع إدخال الانتخابات على النظام المحلي مع بداية الثمانينيات، كما أدت هذه المشاريع إلى ساهمت في زيادة الضرائب على المستوى المحلي، وبالتالي زيادة الأموال التي يتم انفاقها على الخدمات العامة محلياً.

في المحصلة، يقول المتحدث إن هذه الإصلاحات رفعت من قدرة وكفاءة النظام البيروقراطي في الصين، وساعدت في إدخال عناصر ذات كفاءة عالية.

في مصر، يلاحظ المتحدث أنه وبدايةً من منتصف الثمانينيات، تراجَعت الصلاحيات الأدوار التي تقوم بها المجالس المحلية، وهذا يظهر في أربع مسائل: تطور القوانين؛ حيث حدث تراجع إلى مزيد من المركزية من خلال تقليل من صلاحيات المجالس المحلية، وانتظام الانتخابات؛ حيث اتخذت طابعاً زبائنياً أكثر، مع التوجه إلى شراء الولاءات، وبالتالي أصبحت الخدمات العامة موجهة إلى افراد أو عائلات محدودة وليس الصالح العام، والخصخصة؛ حيث جرى استبدال عدم كفاءة المؤسسات الحكومية بالقطاع الخاص، لكن ذلك لم يساهم بشكل كبير في تحسين التنمية الاقتصادية على الصعيد المحلي، وأخيراً التوجه إلى مركزية أكثر. وهنا، يشير محسن إلى أن المركزية في مصر لا ترتبط بالقاهرة فحسب؛ بل بمراكز خارجية متعددة تساهم جميعها في صنع السياسات على الصعيد المحلي.

يُذكر أن أحمد محسن طالب مرشح لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في "جامعة صباح الدين زعيم"، وباحث في "معهد الدراسات العليا" بالجامعة نفسها.

يُشار إلى أن أعمال الدورة الثامنة من "مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية"، التي يُقدم فيها 34 باحثاً بحوثهم في موضوع "الدولة العربية المعاصرة، ستتواصل بعد غد الخميس.

المساهمون