نيكولا غراتو.. البقاء في مكان يهجره الجميع

نيكولا غراتو.. البقاء في مكان يهجره الجميع

10 يوليو 2021
منزل قديم في سيفالو بصقلية (Getty)
+ الخط -

مع ديوانه الثالث "أشرطة كاسيت أزنافور" (2020)، الذي يأتي بعد "جرد لقصّاب" (2018) و"يوم متصحّر" (2009)، يتجّه الشاعر الإيطالي نيكولا غراتو (1975) نحو تكريس اسمه شاعراً للذّاكرة الصقلية المعاصرة، المرتبطة بمشاهد الحياة الإيطالية البسيطة في البلدات الصغيرة، بعيداً عن هرج مشهديات العولمة الصاخبة.

فالشاعر، بحسب الناقدة الإيطالية فرانكا ألاييمو، ينتمي إلى تيار جديد في الفكر الفني الإيطالي يُسمّى "الباييزولوجيا"، وهو تيار فكري يتّخذ من البلدة الصغيرة نواة ملهمة مع كل ما يكتنفها من تفاصيل الحياة السوسيو اقتصادية وما يرتبط بها من طقوس وعادات، تبرز معها سمات تيار فنّي ينأى بإرادته عن الحواضر ويقاوم حصار النماذج الموحَّدة الذي تطرحه وسائل الإعلام الكبرى.

وقد كان أول من نبّه إلى بدء تلاشي العناصر الريفية من الوعي الجمعي والفردي في إيطاليا، وما قد يترتّب عن ذلك من انقراض لأنماط حياةٍ شكّلت البنية التحتية للثقافة الإيطالية، الشاعر الرؤيوي بيير باولو بازوليني الذي استنكر في كتابه "Scritti corsari" التحوُّل الأنثروبولوجي في حياة الإيطاليين، وخبوّ روحهم الريفية جرّاء طغيان الاستهلاكية بمؤازرة إعلامية تمجّد المدنيّة، ومن ورائها الفلسفة المادية.

تتدفّق الكلمات في قصيدة كبرى البطل الأوحد فيها هو الزمن

ومن منتصف السبعينيات إلى وقتنا هذا، زادت حدّة عولمة أنماط العيش الثقافية وحصر رِفعة الحياة وثرائها على نموذج المدنيّة، وأخذت الظاهرة أبعاداً كونية، بانخراط الماكينة الإعلامية ـ التي حذّر بازوليني من سطوتها ـ بالترويج لإفراغ بلدان بأكملها في جنوب الكرة الأرضية من سكّانها واقتلاعهم من جذورهم، لا سيما في بؤر العالم الهشّة، والاحتفاء بهجرتهم إلى الشمال. بل أصبح تمجيد لحظات التخلّي يأخذ أشكالاً أيقونية اختصرتها في السنوات العشر الأخيرة صور النازحين إلى المدن الكبرى في النصف الشمالي من الكرة الأرضية بكل ما تحمله من رمزية صراع ضدّي بين لحظة "الشمال المتحضّر" وجنوب العالم "المتخلّف"، لتغدو بذلك قصص الفرار من هامش العالم إلى متنه هي قصص البطولة الجديدة بحسب منظومة القيم المستحدثة، لا فعل الصمود والمقاومة. غدا فعل الهَجر والتخلّي فضيلة إنسان ما بعد الحداثة مقابل فعل "البقاء" أو "الرّسوخ" بالصيغة المشدّدة التي سكّها الأنثروبولوجي الإيطالي فيتو تيتي Vito Teti تدليلاً على الرسوخ في الأرض بعد انفضاض الجميع عنها.

وفعل البقاء، في المخيال الجنوبي الإيطالي، لا يعني الرسوخ الجغرافي فحسب، بل يمتد إلى البعد التاريخي، حيث يُعد التمسّك بالتقاليد إحدى أهم السمات الأنثروبولوجية لأقاليم ما تحت روما في شبه الجزيرة الإيطالية. ومن داخل منظور "تيتي" هذا يرى نيكولا غراتو أساس مشروعه الشعري الذي يتبلور في مجموعته هذه:

"ثيمة البقاء، وبالتحديد "الرّسوخ" كما نظّر لها تيتي، هي محور كتابتي الشعرية، بل حياتي كلّها (...) البقاء في مكان يهجره الجميع، البقاء بوصفه منظوراً أخلاقياً، نسعى من خلاله للتغلغل إلى أعماق النفس البشرية (...) هذا لا يعني أن شهوة الرحيل لم تراودني (...) إلّا أن البقاء حيث لا يريد الجميع أن يبقى لا يعني حبّ المعاناة، ولكنه انحياز إلى الصمود. لست هنا أخوض في التناقضات إلا أنني ببساطة أؤمن أن العيش بعمق لا يكتمل سوى بالإحساس بوعي البقاء".

الصورة
أشرطة كاسيت أزنافور - القسم الثقافي

حالة الالتصاق العميقة هذه لغراتو بأماكن يهجرها الجميع، ومحاولة الحفر فيها، جعلت لغته الشعرية تتفجر على مفارقة يطلق عليها فيتو تيتي "التجربة الفعلية والمؤلمة لمعنى الاغتراب"، وهي ذلك الشعور المؤلم الذي يجتاح من اختار الانغراس في أماكن هجرها أهلها. أماكن لا يمرّ عليها سوى الوقت، ليستحيل قراره في البقاء مرادفاً لأن تكون شاهداً على رحيل الأماكن عن نفسها. وهو ما يظهر في نصوص الأقسام الأربعة الأولى من المجموعة المغزولة بنفس سردي ينهل من تقاليد كبار الشعراء الإيطاليين؛ مثل بافيزي وبيكولو، وذلك لارتباط البلدات بروح السردية العفوية لدى الإيطالي، وهي خصلة إيطالية أصيلة تشبه الشعرية العربية الفطرية. ولعل ذلك ما يبرّر اختيار النقّاد لتيار "الباييزولوجيا" كوعاء فكري لأشعار غراتو، وعن ذلك يقول الشاعر: "في البلدات لا تزال القصة حية وحاضرة: كما أن بعدها الشفوي لا يزال قائماً. لذلك فليس من النادر في أن يستوقفك عجوز في البلدة، ليحكي لك حكاية ما (...) بلداتنا أماكن مليئة بالمسنّين، لذلك فهي زاخرة بالحكايات".

المسنّون، الذين يظهرون بقوة في شعر غراتو، ليسوا حاملي الموروث الأدبي الإيطالي وتقاليده فحسب، وإنما هم شاهدو عيان على مرور الزمن. "الزمن" الذي يُعد البطل الحقيقي في قصائد "أشرطة كاسيت أزنافور" التي تميزت بعدم افتتاح الشاعر لنصوصها بأحرف كبيرة "وكأن غراتو يرغب في صهر كلماته ضمن تدفق متواصل للأيام والساعات في قصيدة كبرى واحدة البطل الأوحد فيها هو الزمن". تقول فرانكا ألاييمو في تصديرها للمجموعة.

وهكذا تبدو قصائد غراتو أشبه بومضات من الذاكرة تستدعي حميميّة أماكن شهدت تقلُّبات الوقت والطبيعة، يحرص فيها الشاعر على ذكر أسماء الأشخاص والأشياء من حوله ووصف جزئياتها بدقة كأنها لا تزال قائمة من حوله... لكن هل تخليد الذكريات فحسب هي رسالة غراتو الشعرية، وإلى أي مدى تنطوي هذه الفكرة عن أي تجديد؟ يتساءل الناقد ماوريزيو روسي، ليعود ويجيب أن شعرية غراتو وجِدّتها تكمن في توظيف هذه الذكريات كمفاتيح لأبواب تنفغر على آمال مستقبلية. إذ لا بد من الغوص في الذاكرة من أجل استدعاء طاقة الحياة المتجدّدة.

كأنه يستدعي من اللاوعي بعضاً من خصائص الشعر الجاهلي

وفي ذات السياق، يلاحظ كارلو توزيتي أنه من اللافت في ديوان غراتو أن استدعاء الشاعر للذكريات لا ينطوي على شعرية دمار، بل يشير إلى احترام عميق لأماكن يحرص الكاتب أن تكون هي مسرح قصائده التي تتحرّك على ركحه أفكارٌ لا ترتبط بالضرورة بفلسفة شؤم وخراب.

هذا الملمح الفريد الذي يظهر من خلاله وجه التجديد لدى غراتو، يتماهى مع أهم أدوات الشاعر العربي الجاهلية وأعرقها: الوقفة الطللية، مفتاح كل قصيدة عربية أيا كان غرضها. إذ يبدو أن الشاعر الصقلي من خلال محاولته الأصيلة لحفظ ذاكرته الحميمة في البلدات الإيطالية الصغيرة، استحث من حيث لا يدري ذاكرته العربية القصية، مستدعياً من شعرية مختزنة في اللاوعي بعضاً من أهم خصائص الشعر الجاهلي، والتي تلتقي في الكثير من جوانبها مع رسالة الرسوخ الجوهرية في مشروع غراتو الشعري. وكأن الشاعر في هذه المجموعة ينسج من بقايا ذاكرته الصغرى مشروع الذاكرة الكبرى.

فالحرص على الوقوف على الأطلال، الذي كان يدل على رسوخ الشاعر في تقاليد القبيلة أياً كان موضوع قصيدته، لم يسقط من الشعر الجاهلي سوى في شعر الصعاليك الذين آثروا الهجر على البقاء. وقد كان تجريد القصيدة حينها من الوقفة الطللية إعلان انخلاع عن الجذور، عن القبيلة وتقاليدها وقيمها ومعها أي تطلعات مستقبلية في كنف الجماعة، إذ لا شيء يعلو على صوت الفردانية التي كانت الشعاب والوديان المقفرة هي وعاءها الطبيعي في الصحراء العربية، لتصبح في العصر الحالي مدن الشمال وكل ما يكتنفها من وحشة هي مركزها. ولعلّ قصيدة "عليّ صاحب العينين الزرقاوين" لبازوليني هي أبلغ ما كُتب عن هجرة الصعاليك نحو الشمال باتجاه الثقافة الاستهلاكية في قصيدة تنبّأت بما ستجلبه المدنية للعالم من طغيان الصعلكة وتغوّل الفردانيّة.
 

* كاتبة جزائرية مقيمة في إيطاليا


بطاقة

الصورة
نيكولا غراتو - القسم الثقافي

نيكولا غراتو شاعرٌ وكاتب ومسرحي إيطالي من مواليد مدينة باليرمو في صقلية عام 1975. أطلقت عليه الصحافة الإيطالية لقب "شاعر "الرسوخ". صدر له العديد من المجموعات الشعرية والقصصية، بالإضافة إلى سير شعبية. ومجموعة "أشرطة كاسيت أزنافور"، الصادرة عن دار Macador في 2020، هي آخر أعماله المنشورة، وقد صدرت ترجمتُها إلى العربية حديثاً عن "دار ضمّة للنشر والتوزيع" بتوقيع أمل بوشارب.

المساهمون