ناصر الدين سعيدوني متأمّلاً الثورة الجزائرية: تغيير لم يصل إلى مداه

ناصر الدين سعيدوني متأمّلاً الثورة الجزائرية: تغيير لم يصل إلى مداه

29 مايو 2022
(ناصر الدين سعيدوني خلال المحاضرة)
+ الخط -

يعترف المؤرّخ ناصر الدين سعيدوني، في بدايةِ محاضرته الافتتاحية لـ"مؤتمر الدراسات التاريخية"، الذي انطلقت دورتُه التاسعة صباح أمس في الدوحة، بأنّ حديثه لن يخلو من مسحةٍ عاطفية وذكرياتٍ حميمية؛ فالموضوعُ يتعلّقُ بـ الثورة الجزائرية (1954 - 1962) التي انطلقت حين كان في الرابعة عشرة من عمره، وعاش جوانبَ منها في قسنطينة وعنّابة والحدود التونسية والجزائر العاصمة ومنطقة القبائل، ثُمّ اشتغل على سردياتها خلال عمله باحثاً - طيلة خمسة وعشرين عاماً - في الأرشيفات الجزائرية والفرنسية.

"الثورة الجزائرية في ذكرى انتصارها الستّين: إعادةُ قراءة لمسارها، ومكانتها، وما تراكم من سرديات عنها" هو عنوانُ المؤتمر الذي يُنظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" على مدارِ يومَين. ومحاضرةُ سعيدوني (1940)، التي اختار لها عنوان "تأمُّلات في الثورة الجزائرية"، تبدو مختلفةً عن غيرها من الأوراق المحكَّمة التي وُزّعت بين تسعِ جلسات؛ فهي، من جهةٍ، تُضيء على أكثَر من زاويةٍ لتكون بمثابة مدخَل عامّ إلى المؤتمرِ بمحاوره التخصُّصية، ومِن جهةٍ ثانيةٍ، تُراوحِ بين موضوعيةِ المؤرّخ وذاتيةِ مَن يتحدّث عن أمرٍ يخصُّه شخصياً. بل أكثر من ذلك، "تُصبح الذاتيةُ والموضوعية شيئاً واحداً"، وهذه العبارةُ استخدمها المُحاضِر نفسُه.

لا تغيبُ النبرةُ الحماسية عن سعيدوني وهو يتكلّم عن الثورة الجزائرية، التي وصفها، لأكثر من مرّة، في معرض حديثه، بالمعجزة. وهذه الحماسَةُ، التي تُمثّل قاسماً مشترَكاً لدى كثيرين من جيل الثورة، لم يُخفِّف منها ما شهدته الدولةُ الوطنية من إخفاقات وانتكاسات طيلة ستّين عاماً من عُمر الاستقلال. بل إنَّ لمؤلِّف كتاب "المسألة الثقافية في الجزائر: النُّخَب - الهوية - اللغة" (2021) تفسيرُه لتلك المآلات؛ فـ"الثقلُ الذي تعرّضَت له الجزائر لم يكُن يَسمح بمواصلة الثورة لتحقيقِ الجوانب الاجتماعية والثقافية والفكرية. أقصدُ إقامةَ مجتمع المواطنين؛ مجتمع الحرية".

جمعت ثورة التحرير بين الحداثة والأصالة الإسلامية العربية

تلك مسألةٌ إشكاليةٌ سيتناوَلُها لاحقاً بشيء من التفصيل. لكن قبل ذلك، يُخصّص سعيدوني أوّلَ محاضرته للحديث عن خصائص الثورة ومميّزاتها، واصفاً إياها بأنّها "زلزالٌ حضاري"، وأنها "عمليةُ تغيير جذري للواقع ولميكانيزمات السُّلطة ومراكز القرار وقوى الضغط تؤدّي إلى موت القديم وتسمح بظهور الجديد". "الثورة تغيير"، يستدعي سعيدوني عبارةَ هيغل، ويضيف عليها بأنَّ الثورة "انحلالٌ تنبثق منه نهضة تُخرِج الحيَّ من الميت... تَخرج الشعوب ملطَّخةً بالدماء من رحم التاريخ، كما يخرج المولود ملطَّخاً بالدماء من بطن أمّه".

أُولى خصائص ثورة التحرير، وفق المتحدّث، هي أنّها سعت إلى إعادة "بعث الأمّة الجزائرية واسترجاع سيادتها أمام آلة استعمارية مدمِّرة". يدّعي فرنسيّون أن لا وجودَ لأمّة جزائرية قبل استعمارهم الجزائر، وهذا كلامٌ قاله إيمانويل ماكرون نفسُه قبل أشهر قليلة وأثار أزمةً دبلوماسيةً بين البلدَين. غير أنّ سعيدوني، الذي ألّف عدداً غير قليلٍ من الكتب التي تناولت تاريخ الجزائر خلال الفترة العثمانية، يؤكّد أنّ الأمّة الجزائرية موجودةٌ تاريخياً، وأنّ الدولةَ الجزائرية كانت موجودةً منذ القرن السادس عشر. أمّا الثورة، فكانت بمثابة "فجرٍ جديد لهذه الأُمّة".

تُمثّل الثورة، وهذه خاصيةٌ أُخرى، نهايةَ تطوُّر تاريخي عاشه الشعب الجزائري أمام الاستعمار. يُنبّه سعيدوني إلى أنَّ لحظةَ الأوّل من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 لم تكُن معزولةً عمّا سبقها؛ فمقاومَةُ الاستعمار الفرنسيّ كانت فعلاً مستمرّاً، بدليل قيامِ مئة انتفاضة شعبية "دموية" قُتل فيها خمسةُ ملايين جزائري، قبل التحوُّل إلى النضال السياسي الذي اتّخذ توجُّهَين: إصلاحي (جمعية العلماء المسلمين) واستقلالي (حزب الشعب)، وانتهى كلاهما إلى الفشل في تحقيق أهدافهما.

الثورةُ الجزائرية، بهذا المنظور استمراريةٌ وقطيعة في آنٍ: "لا تقومُ الثورة نتيجةَ عمل سياسي أو إصلاحي، بل عندما تفشل السياسة والإصلاح وتقف الشعوب أمام طريق مسدود. إنّها ليست نتيجةَ تحضير أو زعامات أو حركات سياسية، بل نتيجةُ خيبة الأمل ومحاولةُ استجابة للقدر وتغييرِ منطلقات الحياة".

لم يسمح الثقل الذي تعرّضت له الجزائر باستكمال ثورتها

من المميّزات الأُخرى للثورة الجزائرية أنّها "كانت عملاً تحرُّرياً خالصاً، اعتمد على وحدة الصفّ وذابت فيه الجهويات والأيديولوجيات والزعامات والفردانيات؛ حيثُ لم يعُد للرأي الشخصي والميول الأيديولوجية مكان. انصهرَت كلُّ الطاقات الجزائرية، وكلُّ مَن لديه توجُّهٌ أيديولوجي تخلّى عنه لمعاجلة المسألة الاستعمارية". يُضيف سعيدوني: "لو بدأَت الثورةُ سياسيّاً وأيديولوجياً، لما انتهَت إلى النتيجة نفسها؛ فالسياسة والأيديولوجيا تفرّقان ولا توحّدان".

يعتبر المُحاضِر أنّ الثورة الجزائرية تميَّزت أيضاً بالجمع بين "الحداثة في الفكر والممارسة والطرح والأصالة الإسلامية العربية"، معتبراً أنّ هذه المسألة تمثّل واحدةً من المعضلات العربية؛ حيثُ "الحداثيُّ ضدّ الفكر الإسلامي، والإسلاميُّ ضدّ الحداثي. ما وقع في الجزائر كان مختلفاً".

تندرج الثورة الجزائرية، حسب سعيدوني، ضمن حركة التحرُّر التي انبثقت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحوُّل الاستعمار من استعمار مباشِر إلى غير مباشر: "جدّدَت الثورةُ مطلب الاستقلال السياسي، وأيضاً الاستقلال الحضاري والثقافي والفكري الذي يخلق المواطَنة ويؤدّي إلى تغيير موازين القوى العالمية".

ولفهمِ طبيعة الثورة نفسها، يُقدّم سعيدوني لمحةً عن طبيعة المستعمِر نفسه: "نحنُ، في الحالةِ الجزائرية، أمام استعمار استيطاني يختلف تماماً عن أيّ استعمار في أيّ بلدٍ عربيّ آخر: ملايين المستوطنين الأوروبيّين، وأبارتهايد ثقافيٌّ وإنسانيٌّ. يكفي أن تنظر إلى أوروبي لتجد نفسك في السجن. كانت الجزائرُ قطعةً من الأراضي الفرنسية، وكنّا فرنسيّين رغماً عنّا... فرنسيّين من دون حقوق". هذه القوّة العسكرية الهائلة، التي قوامها مليون جندي أطلسي يدعمهم 75 ألف "حَرْكي" (الجزائريّون الموالون لفرنسا) واجهَها 19 ألف مُجاهدٍ فقط، ولاحقاً 75 ألفاً عندما تشكَّل "جيشُ الحدود" انتظاراً لتغيُّر الأوضاع في الجزائر. وهذه المعطيات المتكافئة تجعلُ سعيدوني، مرّةً أُخرى، يؤكّد أنّ ما حدث كان "معجزةً تؤكّد أنّ قوّة السلاح ليست كلّ شيء".

يتوقف سعيدوني، أيضاً، عند "مؤتمر الصومام" الذي عقده قادة "جبهة التحرير الوطني" في العشرين من آب/ أغسطس 1956، والذي يعتبره أخطَر محطّة في الثورة؛ حيثُ تحوَّلت مِن "حرب تحرير" إلى "مشروع استقلال". يوضّح: "تحوّلَت حرب التحرير من ثورة قد تندفع وتأتي على المنطقة كلّها وتخلق أوضاعاً جديدة إلى حرب استقلال لإقامة دولة بمؤسَّساتها. انتهى حلم الثورة وبدأ العمل على الاستقلال. لكن ما هو لون الاستقلال؟ هل هو لونٌ وطنيّ فاعل ومؤثّر، أم لونٌ مكسوٌّ بالخلفيات الفرنكوفونية؟".

في حديثه عن سرديات الثورة، يرى سعيدوني أنَّ الثورة الجزائرية لم تُدرَس إلى الآن. كلُّ ما هو موجودٌ هو بعض الأفكار والأدبيات التي كتبها فرنسيّون وجزائريون. لا تزالُ الثورةُ مثل البيضة؛ لم نعرض منها سوى القشور. أمّا عُمق الثورة، فينتظر جيلاً آخر ومنهجية أُخرى لفهم الواعز الداخلي والقوّة المحرّكة للحياة". يلفت المتحدّث، هنا، إلى غلبة ما يسمّيه "العنتريات والتنظيرات السطحية" على العمل التاريخي الجادّ، مضيفاً أنّ ثمّة حاجة ملحّة إلى مراكز وفرق بحث وإلى خبراء يعملون على الأرشيفات.

يتطرّق سعيدوني أيضاً إلى دور النُّخَب الجزائرية في الثورة، واصفاً إيّاه بأنّه كان "حيادياً وهامشياً"؛ حيث ظلّت "النُّخَب بعيدةً وعاجزة، ربما ليس لعيبٍ فيها، بل بسبب شروط المكان والزمان الجزائريَّين. لكنّ العيبَ كان بعد الاستقلال، حيث نجد أن النُّخَب - وربما هذا الكلام ينطبق عليّ قبل أيّ شخص آخر - كان لها موقفٌ لا يستجيب لمتطلّبات الحياة. كان من الضروري أن تقوم بدور فاعل في تغيير الواقع".

وعن تأثير الثورة الجزائرية، يذكر سعيدوني أنّها "أدّت إلى إنهاء الاستعمار في دول أفريقيا، ودخول أوروبا أزمةً خطيرة كادت تفجّر الداخل الأوروبي، وسقوط الجمهورية الفرنسية، وتمرّد الجيش الفرنسي الذي كاد ينتهي بحرب أهلية". أمّا عربياً، فأشار إلى أنّها "أعادت الأملَ إلى النفوس وأحيت روح المقاومة وبثَّت روح التحدّي، وحاولت إعادة نبض الحياة إلى التوجُّهات الحضارية في هذه المنطقة، وخفّف انتصارُها من جروح القضية الفلسطينية، وهي جروح تتعمّق في الذات العربية إلى اليوم"، وهكذا "احتلّت مكاناً أساسياً في المصير العربي، ورسخت في الذاكرة العربية المتعَبة والمتهالكة التي تعاني ضغط القوى الاستعمارية".

يختتم سعيدوني محاضرته بطرح جملة من الأسئلة؛ من بينها: هل استكملت الثورة دورتها؟ هل استنفدت طاقتها وعادت إلى التاريخ؟ وهل هناك ثورة مضادّة؟ ويجيب: "أعتقد أنّها استكمَلت الجانبَ الأساسي؛ الاستقلال، وعلى الجيل الجديد أنْ يُكمل إقامة المجتمع الحيّ، وهو مطلبٌ أساسيّ للخروج من عُقدة الاستعمار"، مضيفاً من جهةٍ أُخرى: "كلُّ ثورة لها ثورة مضادّة، وقد تستمر".

وهو يختتم محاضرته، تلحّ كلماتُ ناصر الدين سعيدوني على الفصل بين الثورة الجزائرية ومآلات ما بعد الاستقلال: "الثورة الجزائرية، بجميع معطياتها، ثورة عالمية، قد نرى أنّها لم تُحقّق رسالتها كاملةً، لكنّها تبقى ثورةً أصيلةً في بُعدها الإنساني وفاعليتها".



بطاقة

ناصر الدين سعيدوني مؤرخ جزائري حاصل على دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية من كلية الآداب في "جامعة إيكس- آن- بروفانس" بفرنسا عام 1988، وعمل أستاذاً في التاريخ الحديث والمعاصر بـ "جامعة الجزائر" لأكثر من ثلاثين عاماً، كما درّس في "جامعة آل البيت" بالأردن، و"جامعة الكويت، وعمل، بين 2017 و2018، باحثاً زائراً في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي أصدر له كتابَين: "المسألة الثقافية في الجزائر: النُّخَب - الهوية - اللغة: دراسة تاريخية نقدية" (2021)، و"الفكر التاريخي الأوروبي من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر: من لورانزو فالا إلى كوندورسيه" (2022).

من إصداراته الأُخرى العديدة: "في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي في العهد العثماني"، و"مسائل الثقافة والتراث والوقف والمنهجيّة".

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون