منتصر الحملي: في إلغاء المسافات مع موران

منتصر الحملي: في إلغاء المسافات مع موران

16 يوليو 2021
إدغار موران (Getty)
+ الخط -

منذ أيام، بلغ المفكّر الفرنسي إدغار موران المئة عام، وقد وحد احتفاء عالمياً يشير إلى حجم التقدير والشعبية التي يحظى بهما صاحب كتاب "البراديغم الضائع: الطبيعة البشرية". 

عربياً، إذا استحضرنا علاقتنا بإدغار موران، سنتساءل كيف تبقى أجزاء كبيرة من مدوّنته غائبة عن العربية رغم أهمّية ما يطرحه وقربه من قضايا إشكالية تعيشها منطقتنا، إضافة إلى قدرته على حسن طرح فكره، معتمداً لغة بسيطة توصل الأفكار والنظريات دون أن تفقدها عمقها.

في إحدى تدويناته الفيسبوكية بمناسبة المئوية، أشار أحد مترجمي موران، الكاتب التونسي منتصر الحملي، إلى أنه رغم نقله لعدة مؤلفات له لم يصدر منها في كتاب إلا عمل واحد (ثقافة أوروبا وهمجيتها)، والسبب في ذلك "حقوق الترجمة اللعينة" بحسب توصيفه. تبدو زاوية نظر الحملي سانحة لفهم بعض أسباب تعطّل نقل موران وغيره من المفكرين إلى العربية.

يقول الحملي في حديث إلى "العربي الجديد": "كانت الترجمة الوحيدة التي قُدّر لها أن تصدر في كتاب بمجهود فرديّ من الناشر الذي تحصّل على حقوق الترجمة لدار نشره. ومنذ 2010، ترجمتُ له ما لا أستطيع حصره الآن من مقالات ومحاورات نُشرت في صحف ومجلاّت تونسية وعربية كثيرة، أخصّ بالذكر منها "المنارات"، الملحق الثقافي لجريدة الشعب التونسية، ومجلّة "الحياة الثقافية" وغيرها من المنابر العربية. كما ترجمتُ كتابين هما: "الفكر الشامل، الإنسان وكونه" و"مقدّمة لسياسة الإنسان"، واللذان ظلاّ حبيسي حاسوبي لسنوات".

الصورة
منتصر الحملي
منتصر الحملي

يضيف المترجم التونسي: "في هذا السّياق، كنت قد راسلتُ دار نشر في شأن نشر ترجمتي لكتاب "الفكر الشامل"، وقد أبدت اهتمامها وتحمّسها لنشره بعد أن تبيّن لها أهمّيته، وقد أبقتني معلّقاً طيلة ثلاثة أشهر قبل أن ترسل لي رسالة اعتذار عن نشر التّرجمة بسبب ما قالت إنّها صعوبات في الحصول على حقوق التّرجمة. وهكذا هو الحال مع ترجمتي الأخرى. من المؤسف أن يظلّ المترجم تحت رحمة دور نشر لا يفقه أغلب مسؤوليها والمشرفين عليها متطلّبات لحظتنا التّاريخيّة، ولا أذيع سرّاً إذا قلت إنّ أغلب دور النّشر العربيّة الشّهيرة الآن، قد اكتسحت الأسواق على ظهور الأموات! كيف لا وترجمة الأموات بعد مرور فترة من الزّمن لا تكّلفها ملّيماً واحداً وتحصد مقابل ذلك مئات الملايين.
ولكنّني رجل لا يعرف اليأس لقلبه سبيلاً، ولا يجري وراء المال والشّهرة والجاه، ولهذا، سأظلّ أترجم ما أحبّ وما أراه مفيداً، حتّى لو تطلّب الأمر نشرها في صيغة إلكترونيّة. وسيأتي زمن تجد تلك التّرجمات كلّ نضارتها بين أيدي من يقدّر محتوياتها حقّ قدرها". 

يعتبر الحملي أنه ليس استثناء في ما حدث معه، يقول: "أنا متعاطف من موقع المعاناة مع كلّ المترجمين العرب وخصوصاً منهم الجدّيين الذين يختارون الكتب الأجنبيّة الّتي تنير العقول وتفتح البصائر وتساهم في الرّقيّ بالإنسان العربيّ حسّاً وشعوراً وفكراً. هؤلاء، نادراً ما تلتفت لهم دور النّشر العربيّة، إمّا لأنّ ترجماتهم لا تحقّق لهم أرباحا طائلة يلهثون وراءها ويجعلونها الغاية القصوى، أو لأنّها لا تتّفق مع سياسات دولهم، أو لأنّها تتطّلب دفع أموال مقابل الحصول على حقوق التّرجمة". 

وحول تقييمه لدرجة الاستفادة العربية مما تُرجم (ونُشر) حتى الآن من المدوّنة الضخمة لإدغار موران، يقول الحملي: "مع وضع كالذي تعيشه ثقافتنا، لا يسعني إلا أن أقدّم تحيّة تقدير وإجلال ومحبّة إلى كلّ المترجمين العرب في مختلف حقول المعرفة، وأقرأ السّلام على أرواح المترجمين الأوائل بدءاً من عصر "النّهضة العربيّة" وصولاً إلى عصور النّكسة والنّكبة والجهل المعمّم والمعتمّ، لأنّهم لم ينتكسوا ولم ينتكبوا في حضرة التّرجمة، وظلّوا مثل سيزيف يحملون على أقلامهم وأكتافهم بلا هوادة ثقافة الآخر/ الآخرين إلى شعوبهم.

يضيف: "فعلاً، إنّهم لأشبه بسيزيف أو بالمحاربين في غياب استراتيجية وطنية وقومية للترّجمة، وفي غياب معجم عربيّ موحّد، وفي غياب مؤسّسات غير حكوميّة للتّرجمة من أجل التّنوير والتّحرير، وفي غياب تحفيزات معنوية وماديّة للمترجمين المتفرّغين، وفي حضور لافت ومزعج لأفواه النّاشرين النّهمة والمفتوحة على الرّبح المادّي على حساب حقوق المترجم والعقل والمستقبل. فكيف، والحال كما وصفت، سيصل هذا الكتاب القيّم إلى القارئ العربيّ؟ ومن ثمّ كيف ستقع الاستفادة من هذه الكتب المترجمة، علماً وأنّ أغلب مؤلّفات موران لم تترجم بعد إلى العربيّة؟ إنّي لن أجانب الصّواب إذا قلت بكلّ أسف ولوعة إنّ درجة الاستفادة العربيّة من أعمال موران وغيره من المفكّرين المستنيرين والإنسانيين تبلغ درجة الصّفر. وإلاّ، لماذا نحن خارج التّاريخ؟".

الصورة
ترجمة منتصر الحملي

لكن ماهي أهمّ الدروس على الثقافة العربية أن تأخذها عن موران اليوم؟ يجيب الحملي: "ليست الثّقافة العربيّة وحدها الّتي ينبغي عليها أن تستفيد من فكر إدغار موران ومنهجه وآرائه، بل كلّ الثّقافات الإنسانيّة وأوّلها الثقافة الغربيّة نفسها الّتي انحدر منها موران، والّتي وجّه لها انتقادات عديدة وشديدة. ولكن لو قصرت حديثي عن ثقافتنا ومجتمعنا العربيين، لقلت إنّ سبل الاستنارة بفكره والاستفادة من معارفه عديدة. ولكن يمكن التّأكيد بصفة خاصّة على المجالات التّالية: التّعليم، والفكر، والسّياسة، وسأكتفي بالتّوقّف عند المجال الأوّل. لا أحد بإمكانه أن ينكر الواقع المتردّي الّذي يعيشه تعليمنا من المحيط إلى الخليج".

يضيف: "يكفي أن يلقي الواحد منّا نظرة سريعة على ترتيب الجامعات العربيّة في العالم، وعلى قائمة المتوّجين بالجوائز العالميّة في كلّ مجالات الإبداع والعلوم كلّ سنة، وعلى نسبة الانقطاع الرّهيبة عن التّعليم في سنّ مبكّرة، وعلى نسب الأمّيّة المتفاقمة في مجتمعاتنا العربيّة، وعلى القيمة الحقيقيّة للمعارف والعلوم والشّهادات الّتي يتحصّل عليها الطّالب العربيّ المتخّرج طيلة حياته الدّراسيّة، حتّى يتأكّد من قتامة الصّورة ورداءة الحال. ورغم كلّ ذلك، ما زالت السّياسات التّربويّة في بلداننا بصفة عامّة تعاني من أوجه قصور لا تحصى ولا تعدّ، ليس أقلّها الارتجاليّة والتّجريبيّة وغياب التّخطيط والاستراتيجيات. كما أنّ المناهج المتّبعة فيها مازالت لاتاريخيّة، أي خارجة تماماً عن التّاريخ والزّمن، وغير مواكبة بالمرّة لما تشهده العلوم والتّقنيات والمناهج من تطوّر مطّرد ومذهل. وحتّى عمليّات التّشخيص لهذا الواقع المزري، يقوم بها أناس غير مؤهَّلين بشكل غير علميّ وغير مدروس في الكثير من الأحيان، متجاهلين أو غاضّين الطّرف عن طرح الأسئلة الجوهريّة التّالية: أيّ إنسان ومجتمع نريد أن نصنع من التّعليم؟ أيّ تعليم يناسب الفرد والمجتمع اللّذين نريد أن نبني؟ ما هي العلوم والمناهج الّتي تساعدنا على الوصول إلى تحقيق تلك الغايات؟".

يضيف أيضاً: "هذه هي الأسئلة الّتي دعا موران إلى طرحها من أجل تعليم مستقبليّ، تعليم يقوم على ثلاثة محاور رئيسيّة، أوّلها تعليم المتعلّم كيف يكون إنساناً، دون تمييز بين البشر حسب اللّون أو العرق أو الدّيانة أو العنصر أو الجنس. وثانيها تعليمه ما المعرفة وكيف يفهم أخطاءها، وما هي قدرتها وحدودها. وثالثها تعليمه النّظر إلى كلّ الأمور في مجالات المعرفة والعلوم والحياة والمجتمع نظرة تركيبيّة شاملة، لا نظرة اختزاليّة أو تجزيئيّة تفصل بين المعارف والأحداث والاختصاصات وبين الإنسان والكون والبيئة. باختصار شديد، أرى أنّه لا نهوض لثقافتنا العربيّة دون إحداث ثورة مورانية في تعليمنا".

وحول متابعته الشخصية للاحتفالات بمئوية إدغار موران منذ أيام من موقعه كأحد مترجميه، يقول الحملي: "شكّلت مئويّة موران حدثاً استثنائيّاً في العالم كلّه، وخصوصاً في بلده فرنسا، ليس فقط لقيمة هذا الفيلسوف الثّابتة وعطائه الفكريّ الغزير طيلة أكثر من ثمانين سنة، بل أيضاً لأنّه نادراً ما عاش مفكّر قرناً من الزّمان، فهذا في حدّ ذاته حدث".

يردف: "أمّا فيما يخصّني، فقد احتفيت به هذه المئويّة بطريقتين، الأولى بالمشاهدة والقراءة، عبر اقتفاء أخبار تكريمه في الصّحف والمجلاّت والمحطّات التّلفزونيّة الأجنبيّة، وتصريحاته والمحاورات الّتي أُجريت معه بهذه المناسبة، وأذكر منها على وجه الخصوص الحصّة الرّائعة الّتي خصصّها له "تليفزيون فرنسا 5" والّتي دامت 50 دقيقة، قبل أيّام معدودة من غلقه المئة عام. أمّا الطّريقة الثّانية، فكانت بنشر ترجمتي لكتابه الهامّ "Penser Global, L’homme et son univers"، في صيغة إلكترونيّة بعد أن عجزت عن نشرها ورقياً. ومن حسن حظّي أنّي تلقّيت بهذه المناسبة هديّتين من صديقين لي على علم بشغفي واهتمامي بموران، وقد تمثّلتا في كتابين له، الأوّل قديم نسبيّاً بمقياس الزّمان، هو "Pour et contre Marx"، والثّاني "Leçons d’un siècle de vie"، وهو آخر ما ألّفه موران ولم يمّر على نشره أكثر من شهرين تقريباً، وقد شرعت للتّوّ في ترجمتهما معاً".

وحول بدايات تعرّفه على كتابات موران، يقول الحملي: "هذا السّؤال يعود بي إلى ثلاثين سنة خلت. كان ذلك حين كنت بصدد قراءة مقال ذات صيف من سنة 1992 في مجلّة فرنسيّة معروفة هي "Manière de voire"، وقد استشهد فيها صاحب المقال بإدغار موران الّذي لم أكن قد سمعتُ به ولا قرأتُ له من قبل. دوّنتُ اسمه على دفتر بنيّة البحث عن كتاباته لاحقاً. وفعلاً، تسنّى لي أن أقرأ له بعض المقالات هنا وهناك، حتّى جاءتني الفرصة لأقرأ له كتاباً كاملاً. كان ذلك في سنة 2005 حين كنت (ومازلت) عضواً في أسرة تحرير الملحق الثّقافيّ لجريدة الشّعب "المنارات" في نسخته الأولى، مهتمّاً بترجمة المقالات، فاقترح عليّ صديقي النّاقد المسرحيّ  والمشرف آنذاك على الملحق، أحمد حاذق العرف، ترجمة نصّ مقتطف من كتاب موران "الإنسان والموت" L’homme et la mort. أعجبني المقترح، ولكنّني رغبت في الاطّلاع على الكتاب كلّه لا فقط على المقتطف الّذي سلّمه لي. وبالمصادفة، حدّثت صديقاً عزيزاً هو عبد السلام البغوري عن محور الملحق القادم وعن نصّ موران، فأخبرني بأنّه يمتلك نسخة من الكتاب الّتي سلمّنيها من الغد. ومنذ ذلك اليوم، انطلقت رحلتي مع رحلة إدغار موران، قراءة وترجمة". 

يضيف، مبيناً انعطافه من القارئ إلى المترجم في علاقته بموران: "قرأتُ له في ظرف وجيز العديد من المؤلّفات والمقالات حتّى خامرتني فكرة ترجمة بعض كتبه ونشرها في تونس بعد أن لاحظت بدهشة عدم معرفة أغلب المثقّفين - فما بالك بعامّة النّاس - بهذا الرّجل وبما يكتبه، وبالتّالي عدم ترجمة أيّ تونسيّ ولو لكتاب واحد من جملة مؤلّفاته الّتي يصعب عدّها. حينها، كنتُ قد انتهيت من قراءة كتابه المذهل "Culture et barbarie européennes"، وقد علمت أنّه قد تمّ ترجمته إلى العربيّة ونشرته "دار توبقال" المغربيّة... بعد اطّلاعي على هذه التّرجمة، عزمتُ على المضيّ في ترجمتي الخاصّة، نظراً لما اعتبرته أخطاء فظيعة في تلك التّرجمة ليس أقلّها ترجمة كلمة barbarie بكلمة بربريّة! وهكذا، كانت تلك أولى ترجماتي لإدغار موران وآخرها الّتي قيّض لها أن ترى النّور في شكل كتاب ورقيّ سنة 2010. وها أنا مواصل رحلتي المزدوجة مع هذا الرّحّالة الفكرّي الكوكبيّ، قراءة وترجمة".


بطاقة
كاتب وشاعر ومترجم تونسي من مواليد 1963. من إصداراته: "قطار الأحلام" (نصوص، 1995)، و"مدوّنة الملاعين الطّيّبين" (عمل شعريّ جماعيّ، 2010)، و"هكذا أحمل الدّنيا في يدي" (شعر، 2015)، وصدرت له ترجمة كتاب "ثقافة أوروبّا وهمجيّتها" لـ إدغار موران في 2010.

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون