"مقامات المسرّة": دخول الطرب الحلبي من باب صبري مدلّل

"مقامات المسرّة": دخول الطرب الحلبي من باب صبري مدلّل

20 مايو 2023
من لوحة بعنوان "صبري مدلّل" للتشكيلي السوري سعد يكن، أكريليك وزيت على قماش، 2002
+ الخط -

في مطلع فيلم "حلب: مقامات المسرّة" (1997)، تلتقي الكاميرا "صدفةً" بالممثّل عمر حجّو، أحد أكثر الوجوه الحلبية شهرةً على شاشات التلفزيون. يتحدّث حجّو (1931 - 2015)، في واحد من الأزقّة الضيّقة في حلب القديمة، عن تعلُّق أهل المدينة بالغناء، وعن كون الكثير منهم "يؤدّون"، أي يدندنون ويغنّون، تماماً مثل الحجّار الذي يصدح وهو يطرق على حجارته.

كيف يمكن الدخول إلى عوالم الغناء في المدينة؟ لم يكن المخرج السوري محمّد ملص ليجد باباً للحديث عن موضوعه أفضل من شخصية المغنّي والمنشد الحلبي صبري مدلّل (1918 - 2006)، "شيخ الطرب"، كما يسمّيه الحلبيّون.

في إطار "مهرجان الثقافة والفنون السورية - سقف" (SACF)، الذي تُقام دورته الثانية في لندن بين الحادي عشر والثالث والعشرين من أيار/ مايو الجاري، عُرض أخيراً فيلم ملص الذي يصوّر فيه صبري مدلّل، آخر الأحياء، حينها، من الشاهدين على تأسيس الطرب الحلبي، بعد أشخاص مثل معلّمه عمر البطش، وبكري الكردي، وغيرهما.

يُفتَتح العمل، كما أشرنا أعلاه، بهذه "الصدفة" التي رتّبها المخرج السوري في شريطه الوثائقي مع الممثل عمر حجّو، يليها لقاءٌ تقديميّ آخر مع الملحّن محمد رجب، الذي يعطي صورة عن التراث الموسيقي الحلبي، وينصح المخرج بالذهاب للالتقاء بصبري مدلّل، أحد أفضل المطربين الحلبيين برأيه، ولأنه من "المخضرمين". وهو يتحدّث عن معرفة، ليس فقط كموسيقيّ يفهم في مهنته، بل أيضاً كشخص عرف مدلّل عندما كانا صغيرين، في ثلاثينيات القرن الماضي.

لم يرضَ والده على دخوله عالم الغناء والراديو، فصار منشداً

اللقاء مع صبري مدلّل سيكون عبر الأذان، الذي يرفعه المنشد والمغنّي الحلبي من غرفته في بيته الحلبي القديم، وهو خيارٌ دالّ إلى حدّ بعيد، خصوصاً أنّ المخرج يلتقط هنا واحدة من "ثوابت" الطرب الحلبي: دخول كثير من المغنّين لعالم الغناء انطلاقاً من الإنشاد الديني والأذان، وعدم ذهابهم بعيداً في الشهرة و"النجومية" لهذا السبب بالتحديد، أي لأسباب دينية ومحافظة ــ وهي قاعدة كسرها مؤذّن ومنشد واحد تحوّل لاحقاً إلى مغنّ معروف، حتى أنّ الناس لا تعرف اليوم أنه كان مؤذّناً مثل كثير من أقرانه في حلب، وأبرزهم صباح فخري.

سيخبرنا المنشد الراحل كيف صار مؤذّناً في صغره، وكيف اجتمع الناس مرّةً في الشارع بينما كان يؤذّن، مستمتعين بصوته، قبل أن يأخذه والده إلى عمر البطش، عرّاب الموشّحات والطرب الحلبي، ليتعلّم على يديه.

لكنّ والد صبري مدلّل لن يرضى عن دخوله عالم الغناء والراديو، وهو ما سيبعده عن المستقبل الذي كان ينتظره، ليتخصص أكثر بالإنشاد مع فرقة سيُنشئها ويشارك فيها بعضٌ من أصوات الإنشاد والطرب اللاحقين، مثل حسن حفّار.

يعرّفنا الفيلم على شخصية مدلّل انطلاقاً من أماكن كثيرة: مثلاً، من حديثه عن طفولته ووالده وعن موهبته بالغناء، والتي يُحيلها إلى دعاء أبيه، أثناء حجّه، أن يرزقه الله "عشرة صبيان بأصوات جميلة". كان صبري واحداً من اثنين صوتهما جميل بين العشرة، في حين توفّي أخوه الآخر مبكّراً.

كما يحدّثنا الفيلم عن مدلّل من أماكن أُخرى: من مهنته، وهو الذي كان ما يزال يذهب إلى محلّه في حلب القديمة لبيع الصابون - وهي مهنة حلبية بامتياز. كما سنراه في الشريط وهو يتوضّأ، ويتمشّى، ويتعطّر، ويسلّم على هذا وذاك. كأننا معه في حياته اليومية.

خلال الشريط الذي يناهز الساعة، يغنّي صبري مدلّل، يغنّي وينشد بلا توقّف، وحده وهو يتمشّى في بيته ويحضّر صينية الشاي، أو مع فرقة إنشاده خلال حفل. لكنّه ينشد وكأنّه لم يكن حينها ثمانينياً، بل شاباً عشرينياً، يحبّ الدندنة مع كل شيء يقوم به، مثل أبناء مدينته.

المساهمون