ماسمو كمبنيني.. راهنية ابن خلدون من منظور غربي

ماسمو كمبنيني.. راهنية ابن خلدون من منظور غربي

03 مايو 2021
(تمثال ابن خلدون في تونس العاصمة، تصوير: سامي ملوحي)
+ الخط -

استحوذت مقدّمة ابن خلدون على اهتمام الغرب منذ بدايات القرن التاسع عشر، من زوايا مختلفة، حيث اهتمّ بعض الباحثين والمستشرقين بمنهجيّة كتابة التاريخ فيها، بينما ذهب آخرون إلى معاينتها كمؤلَّف مؤسِّس في علم الاجتماع، ونظر إليها البعض كتأمّلات فلسفية في تاريخ الحضارات البشرية.

"ماضي العالم العربي ومستقبله من خلال مقدمة ابن خلدون" عنوان النسخة العربية من كتاب أستاذ الدراسات الإسلامية والباحث الإيطالي ماسمو كمبنيني (1954 ــ 2020) التي صدرت عن "دار فضاءات للنشر والتوزيع" بترجمة نشاط مصطفى وناصح رضوان.

يعود المترجمان إلى ترجمةِ المستشرق الفرنسي أنطوان إيزاك سِلفستر دو ساسي فصلين من المقدّمة عام 1810، بعد نسيانها حوالي خمسة قرون، ثم نشر نسخة كاملة منها باللغة العربية على يد مواطنه إتيان مارك كاترمير سنة 1858، وتوالى بعدها نشْرُ نسَخ محقّقة منها ومترجمة من قِبل كتّاب غربيين على وجه الخصوص، كما يظهر اهتمام المؤرخين الأتراك فيها منذ القرن السابع عشر بحسب ما توضّحه مؤلّفاتهم.

الهزيمة والانحطاط في زمن المؤرخ العربي قاداه إلى إعادة التفكير في مفهوم الحكم وآليات السلطة

ويوضّحان أن عام 1858 كان نقطة مفصلية مع نشر كاترمير ترجمة عربية محقّقة لها في ثلاثة مجلّدات، وظهرت أيضاً في طبعة عربية تحت إشراف الشيخ نصر الهوريني بالمطبعة الأميرية في بولاق بالقاهرة. ولا يُغفَل هنا عن أن اندفاع الفرنسيين نحو ترجمتها وتحقيقها لم يخلُ من مقاصد أيديولوجية، حيث أمدّ التراث الخلدوني الدول الاستعمارية آنذاك بمعرفة طبيعة العقلية الشرقية وخصائصها الحربية وتنظيماتها الاجتماعية، واستخدمها بعض المؤلّفين من أجل تبرير الموضوعات العرقية وإرساء الأيديولوجية الكولنيالية، وتمّ تحوير فكره من قبل مدّاحي الاستعمار.

كما يلفت كمبنيني إلى أن "ابن خلدون يعدّ من أبرز المفكّرين العباقرة المجدّدين في الإسلام الكلاسيكي خلال فترة انحطاطه البطيء، علماً بأنّ هذه الفترة (القرنين الثالث عشر والرابع عشر) لم تكن تخلو من إشعاع رغم انحطاطها، كما أنه كان بكلّ تأكيد من أكثر المفكّرين ألمعيّةً من بين الذين اهتمّوا بفلسفة وسوسيولوجية تاريخ العصر الوسيط كلّه، المسيحي – اللاتيني والإسلامي"، مبيّناً أن "إعادة اكتشاف ابن خلدون في أوروبا تمّت بفضل الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز" (1588 - 1679).

الصورة
غلاف الكتاب

يقف الفصل الأوّل من الكتاب عند حياة ابن خلدون ومؤلّفاته والسياقات السياسية والاجتماعية التي كتب وعاش خلالها، حيث عاصر عصراً مليئاً بالدسائس والمؤامرات، وكانت دولة المماليك البحريّة في مصر تُعاني من أزمةِ شرعيّة الحكم، ما أدى إلى انقلاب داخلها أوصل المماليك البرجية إلى سدّة السلطة، إلى جانب الركود الاقتصادي الذي وصلت إليه سلطنتهم، ما جعلهم يخفقون في الانتقال من المرحلة المركنتيلية إلى الرأسمالية، وساهم في ذلك اكتشاف الطرق الكبرى المحيطية باتجاه أميركا، ما جعل الأوروبيين ــ وفي طليعتهم البرتغاليون ــ يسيطرون على طرق التجارة البحرية.

تلك الأحداث الجسيمة أثّرت في طريفة تفكير ابن خلدون تجاه فكرة الحكم ثم أتبعها قيامه بدور دبلوماسي، بطلَبٍ من السطان المملوكي الناصر زين الدين فرج، الذي أوفده للقاء تيمورلنك حين هاجم الشام، وهو لقاء اهتمّ به على نحو خاصة في التعليق عليه والاستفاضة في شرح معطيات في كتاباته، وعاش على أمل أن يوحّد تيمورلنك العالم الإسلامي، لكنْ سرعان ما خاب أمله.

كان ابن خلدون مؤمناً بوجود ممكن أو غائي للدولة الفاضلة، كما كان واعياً جداً بنسبية الزمن

في الفصل الثاني، "مقدمة ابن خلدون بين الفلسفة والسوسيولوجيا والتاريخ"، يتناول كمبنيني كيف أن المؤرخ العربي (1332 – 1406) رفض في منهجه أيّ انزلاق نحو التفسير الطوباوي للتاريخ، ووظّف عِلم العمران في تفسير الأحداث، وهو علم يهتم بمختلف ميادين المعرفة التي تتقاطع مع شرح حقيقة الإنسان، والتاريخ والسوسيولوجيا والسياسة والاقتصاد والفنون والفلسفة.

أما الفصل الثالث، "الفكر السياسي لابن خلدون بين الواقعية والطوباوية"، فيقدّم وجهة نظر صاحب المقدمة التي تستند إلى أن "المُلك لا يقوم على قواعد إلهية"، وبذلك فإن الدولة بدورها تمثّل آلية طبيعية تخضع لقواعد النشاة والتطوّر والانحلال، وكيف لاحظ أن الدولة لم تعد مجرّد فضاء لإعادة إنتاج العنف الضروري لتوطيد سلطة مجموعة سوسيو-سياسية، ويجب عليها أن تتموقع فوق المجموعات والأفراد، وأن تنشأ باعتبارها مؤسّسة بعيدة عن الدين.

يختم كمبنيني كتابه بـ"نقاش مفتوح"، وهو عنوان الفصل الرابع، الذي يسعى من خلاله إلى قراءة الفكر الخلدوني في اللحظة المعاصر، حيث الحُكم العادل والعقلاني الذي وُصف في المقدمة ليس إذاً هو الحكم الطوباوي، ويصف المفكّر بأنه كان مؤمناً بوجود ممكن أو غائي للدولة الفاضلة، كما كان واعياً جداً بنسبيّة الزمن، وهو بذلك منح الفرصة لدراسة الدولة والسلطة باعتبارهما واقعتين عقلانيّتين وغير شخصيّتين، حالهما كحال الوحي والرسالة.

المساهمون